ثقافة وفن

تشرين التحرير جوهر النفوس وشموخ الأدب

| إسماعيل مروة

في ذلك اليوم كنا في العاشرة من العمر، نعي ما يدور حولنا، وحين عدنا من المدرسة كانت بداية الحكاية الفخار، وعلى موائد الإفطار قبل أيام شهدنا مغادرة أحبابنا من الجند الذين تم استدعاؤهم على عجل.. كان كل شيء هادئاً، والنفوس تتبرم ضجراً حتى كان يوم السادس من تشرين، العاشر من رمضان، حين انتفض المارد من قمقمه، وكان النصر الكامل.. لم يكن نصراً عسكرياً وحسب، بل كان نصراً اجتماعياً مجتمعياً إنسانياً.. كان هبة لرجل واحد ارتدى ثوب العروبة.. في ذلك اليوم خلع نزار قباني ثوبه، ونفض ما علق به في «هوامش على دفتر النكسة» وغادر ما يطلبه المستمعون، وعانق شآمه وميسونه وراح يصدح كأنه ولد اليوم شاعراً.

أتراها تحبني ميسون
أم توهمت والنساء ظنون
كل ليمونة ستنجب طفلاً
ومحال أن ينتهي الليمون
جاء تشرين يا حبيبة عمري
أجمل الوقت للهوى تشرين.

عاد إلى حبه وشجنه، كأنه ما عرف النكسة، كأن حنجرته تعرف الشعر أول مرة، عاد محباً يبحث عن محبوبته، فأجمل الوقت للهوى تشرين..

في ذلك اليوم خرج سليمان العيسى عن صمته، فقد أسكتته النكسة، وسلبته الشعر الجميل، وصدمته ومنعته من القول، في ذلك اليوم تحول العيسى إلى مارد يغوص في الشعر وعمق المعنى ليكتب أبرع ما يقال في المقاتل والشهيد، وقدّم ملحمة تتفوق على الشعر.

ناداهم البرق فاجتازوه وانهمروا
عند الشهيد تلاقى الله والبشر
ناداهم البرق فاختاروه أغنية
خضراء ما مسّها عود ولا وتر

وكانت مواكب الأبطال تسير إلى المعركة، وقوافل الشهداء تعود لحراسة الأرض والقيم.. غادة السمان غادرت صومعة الوجود تكتب ملحمة النصر بنثر يقارب الشعر ويتفوق.. عبد السلام العجيلي يحضر بقامته المديدة العميقة في الأدب ليسجل ساعات من البطولة شهدها ووثقها.. وعلي عقلة عرسان يرخي ستارة المسرح ليكتب روايته الوحيدة والفريدة في جمالها (صخرة الجولان)، ليرسم صورة للبطولة والانزراع في أرض المعركة للدفاع عنها.. وفي ذلك اليوم استمرت كوليت الخوري على خطها الوطني الذي التزمته في زواياها وقصصها لتجود بصور قلّ أن نراها في كتاب أسمته فيما بعد (سنوات الحب والحرب) احتفظت فيه بأسمى الصور والمعاني التي قد لا يصدقها المرء.. وسجل فارس زرزور بطولات نادرة، واستقر جبل الشيخ في بيت الراحلة سهام ترجمان التي كانت إعلامية حربية مراسلة، فسجلت بعدستها في سورية ومصر أروع الصور وأجملها.. وكان يوسف القعيد وجمال الغيطاني وعبد الرحمن الأبنودي وكل مبدعي الأدب شعراً ونثراً، الذين خرجوا عن صمتهم الطويل، وبعضهم تدرب على النطق في تشرين الذي كان يوماً مختلفاً وفاصلاً.. فعن أي بطولات يتحدث الأدباء؟ عن البر؟ عن الجو؟ عن البحر؟ عن المظلات؟ عن المشاة؟ عن الفدائيين؟

تحدثوا عن كل هؤلاء حين تحدثوا عن الإنسان والبطولة.

خمسون عاماً مرت، وكتب الكثير عن هذه الحرب، وحسبنا أنها أيقظت الإنسان العربي، وأعادت له انتماءه وحبه، وكشفت جوهر المبدعين.. قبل خمسين عاماً أذاعت إذاعة القاهرة بصوت طه حسين (الحمد لله أنني شهدت النصر قبل موتي) ومات بعدها بأيام.. كل عربي في ذلك اليوم لم يكن ليعتني بالحياة بعد النصر الذي كشف جوهر النفوس وأعطى الأدب شموخاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن