ثقافة وفن

تشرين بأقلام المبدعين … أحنيت رأسي بخشوع أمام هذا الشعب المستعد لأن يقدم الأغلى من أجل هذه الأرض

كانت حرب تشرين حالة من النشوة والعزة عند السوريين عموماً، وللأديب موقف لا يمكن أن نغفله، والسيدة الأديبة كوليت الخوري أعطت هذه الحرب ذوب قلمها وإحساسها ومتابعتها، وقد اخترنا من إبداعها الثر قطعة وجدانية وقصة تسجل البطولة عند السوريين.

نصان للكاتبة كوليت خوري

تحية إلى أبطالنا
تصغر الكلمة في بعض الأحيان..

عندما يدرك المرء أنه يرمي من على كتفيه سنوات عمره السود لينطلق من اللحظة الراهنة حراً كريماً، ليولد من جديد، وليبدأ من الحاضر حياة مشرقة عزيزة.

في بعض الأحيان، عندما تقف الأمة بأكملها قلباً واحداً وصفاً واحداً موحداً، يسترخص الغالي والأغلى من أجل هذه الأرض الغالية.

في بعض الأحيان، عندما يثبت للمرء أن الحياة وقفة عز وأن الموت ابتسامة شرف.. يصبح الوجود بأكمله هدية تقدم لهذا الوطن.

وتصغر الكلمة..

الآن

في هذه اللحظات الحاسمة
يبدو لي كلّ ما سأكتبه تافهاً

الآن

وذراتنا مختلطة بتراب هذه الأرض وأبطالنا الذين يقاتلون هناك مهج تعيش تحت أهدابنا

الآن

تصغر الكلمة، ووحدها تكبر قطرة الدم.. تسمو.. تتضخم.. تتسع حتى إنها تغمر وجودنا والعالم بالنور..

فإليكم

يا من ترسمون بدمائكم مصيرنا..
إليكم.. يا مصابيح الليل.. يا براعم الأمل ويا ضياء عيوننا..
إليكم أيها الأحباء المقاتلون هناك.. تحية تحمل كلّ وجودي.

امرأة من تشرين «قصة»

– ممنوع الدخول

وتصيح المرأة باكية:

– ممنوع؟ كيف؟ يجب أن أرى ابني!

ويردد نفر الشرطة العسكرية على بوابة المستشفى بهدوء:

– يا أختي قلت لك الدخول ممنوع، ألا ترين الناس؟

وتنشج المرأة

ويتدافع الناس أمام الباب.. كل جاء يبحث عن ابنه أو أخيه المصاب.

– أرجوك يا ابني.. اسمح لي بالدخول.. يجب أن أرى ولدي.. ويرتفع نواحها.

ويصر الشرطي:

– يا أختي.. طولي بالك.. ممنوع الدخول.. ثم لا مجال الآن للتفتيش عن ابنك!

– أرجوك يا ولدي.

وتتلفت حولها مستنجدة:

– ابني.. يجب أن أرى ابني..

وتلمح صبية بلباس الدفاع المدني مقتربة فتهرع صوبها.. وتناديها متوسلة:

– أرجوك يا ابنتي.. أقبل يديك..

وتسأل الفتاة متعاطفة:

– خير يا خالة.. ما بك؟

تشرح المرأة

– ابني.. جرح في الحرب.. أصيب ولدي يا ولدي.. وهو هنا.. وأريد أن أراه..

– ومن قال لك إنه هنا؟

– هو.. هو بعث إلي بخبر..

وتمسح عينيها بمنديل رأسها وتمد يدها إلى جيب سروالها الطويل، تخرج منه ورقة صغيرة تقدمها إلى الصبية:

– اقرئي.. يا ابنتي.. انظري ما في الورقة.. أنا لا أعرف القراءة..

وتقرأ الصبية:

– «أنا بخير.. موجود في مشفى المواساة طابق ثان غرفة 19 ابنك مصطفى».

وتنحب المرأة:

– أحد الجيران حمل إلي هذه الورقة.. أتوسل إليك يا ابنتي..

ويرتفع عويلها:

– يبدو أنه جريح.. يا ولدي..

وتلتفت الفتاة إلى الشرطي ثم تهز رأسها وتقول للأم:

– انتظري هنا.. سأتبين الأمر بنفسي.

وتتجه صوب مدخل المشفى وهي تحس بأن خطواتها تنغرس في نواح أم منهارة.

ويظل النواح متواصلاً، يقطعه من حين إلى آخر صوت أحد أنفار الشرطة العسكرية وهو يردد بين الحشود:

– ممنوع الدخول لا نستطيع أن نبحث في السجلات الآن..

يظل النواح أنيناً حتى عودة الصبية:

– فعلاً يا خالة ابنك هنا.. وقد استأذنت الطبيب.. تعالي معي..

وتهرول الأم وراء الصبية، ويأتي صوتها متأتئاً:

– يا ابني.. يا رب.. أرجو ألا يكون جرحه عميقاً أرجو أن يكون خدشاً بسيطاً.. هل رأيته؟

وتجيب الصبية بصدق:

– لا لم أره، إحدى الممرضات قالت لي إنه هنا، فاستأذنت المدير.

– يا رب.. أرجو أن يكون خدشاً بسيطاً.. يا إلهي.. لن أحتمل.

*****
عند باب القاعة الكبيرة المكتظة بالأسرة تقف الأم قلقة، وتطير نظراتها على الجرحى.. وتلمحه في نهاية القاعة.. كالنسر جالساً في سريره.. كالنصر مبتسماً..

وتكون الصبية قد سبقتها إليه.. وتهرع الأم سابحة في دمعها:

– يا ابني.. يا حبيبي.. ما بك؟
ويبتسم ابن العشرين في تفاؤل:
– أنا بخير.
– أين أصبت؟ أين الجرح؟

ودون أن تنتظر الجواب، وبعفوية تكشف عنه الغطاء، فتجحظ عيناها.. وتجمد مشدوهة.

ويفاجأ الشاب بحركتها السريعة.. فيغمغم كأنما معتذراً:

– هكذا حصل.. بتروا لي الساقين!

لثوانٍ تظل الأم جامدة تحملق في السرير الفارغ، وفجأة تنتفض وترفع رأسها كاللبوة وتنطق بحزم:

– «شو عليه؟» ما هم؟ ما هم؟ ثمن النصر غال يا ولدي..

وبسرعة تنحني على السرير وتقبل الساقين المبتورتين في إجلال.. ثم تنتصب من جديد..

– ما هم؟ سننتصر على الأعداء بإذن الله.. سننتصر وثمن النصر يا ولدي غال..

وتقترب لتطبع على جبين ابنها الوضاح قبلة تشجيع وتتمتم:

– الحمد لله أنك ما زلت على قيد الحياة.

*****
كنت بالمصادفة أراقب المشهد.

وأمام تلك الأم المنهارة التي حولتها الصدمة إلى جبل من التصميم والحزم.. أحنيت رأسي في خشوع وأنا أفكر في أن هذا الشعب العظيم..

هذا الشعب المستعد لأن يقدم الأغلى من أجل هذه الأرض..

هذا الشعب، عندما يصمم، قادر على صنع المعجزات..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن