صرح باقٍ يخلّد حرب تشرين بعيون التشكيليين … الفنان ابن أرضه ويحمل همومها ويسعى لتوثيق انتصاراتها وتاريخها
| مصعب أيوب
بانوراما حرب تشرين التحريرية لوحة فنية تغري عين المتلقي وتحاكي عقله وقلبه، وهي تمثل تجسيداً حياً للمعارك البطولية، وتأتي أهمية هذا الصرح البانورامي في توثيق هذه الحرب لأنها حرب انتصار ورد اعتبار وغيرت وجهة تاريخ المنطقة، ونظراً لضرورة ترسيخ الانتصار في وجدان الشباب وفي ذاكرة الأجيال ولجعله نموذجاً لإعداد جيل مؤمن بعدالة قضيته ولترسيخها في ذاكرة الأجيال اللاحقة ولجعلها بمنزلة نموذج يحتذى به من أجل تنشئة جيل يحمل الإيمان العميق بالعدالة وبتحقيق النصر والحفاظ على أرضه.
ارتباط الفنان بأرضه
وقد عبر العديد من الفنانين عن معاني التحرير في تشرين بطريقة عميقة وبتجسيد قريب للعقل بالرمز والتشكيل، فكان الاحتفاء بالانتصار هاجساً وطنياً لا بد من ظهوره بالشكل التجريدي، وتجسد فيها مدى تعمق الفنان بأرضه وبالقضية المصيرية في وجه الكيان الصهيوني وقد كان لتلك الأعمال الدور الكبير في تعزيز الشعور بالانتماء ولا سيما بعد تخليد أسماء الشهداء والاحتفاء بهم، سواء شهداء تشرين أم ميسلون أم أي معركة كان هدفها الدفاع عن الوطن وحماية أراضيه.
ثبات وتصدٍ
هي حرب قادتها كل من سورية ومصر على الكيان الصهيوني لتحرير هضبة الجولان في سورية وشبه جزيرة سيناء في مصر، فكان لا بد من تخليدها في مكان يجسد جميع البطولات والانتصارات التي خاضها الجيش السوري في حربه التي أطلق صافرتها عند الثانية ظهراً في السادس من تشرين الأول 1973.
وقد تم تخليدها في صرح شيد على شكل قلعة عربية قديمة تعكس عمارة العرب الأصيلة وتعبر عن الثبات والتصدي اللذين أبدتهما سورية خلال الحرب وهو موقفها الثابت حتى اليوم، فتظن نفسك متوغلاً في تلك الحرب منذ اللحظات الأولى لدخولك هذا المكان.
تصميم القلعة الحصينة
بناء ضخم وصرح عظيم سيلفت انتباهك عند مرورك من مدخل مدينة دمشق الشمالي والشرقي، ويكسو الصرح الدائري هندسة معمارية فريدة استمدت من تصاميم القلاع الحصينة، ويعلو البناء قبة ومن فوقها برج حجري ومعدني.
كما يتوسط الساحة الخارجية تمثال مصنوع من البرونز للقائد الخالد حافظ الأسد باللباس العسكري يجسد دوره المحوري في قيادة الحرب، ويضم المتحف في الساحة الخارجية من جهة اليمين مجموعة من الآليات العسكرية السورية التي كان لها شرف المشاركة في تلك الحرب ومنها مدافع الهاون وناقلات الجند وسلاح المدرعات القتالية ومدرعات تحمل صواريخ مضادة للطيران وعدد من الصواريخ المحملة على عربة عسكرية إضافة على طائرة «ميغ21» الحربية المقاتلة.
كما تتضمن الساحة الخارجية يساراً العديد من قطع الآليات العسكرية والمروحيات الإسرائيلية التي استخدمت في الحرب وحطام بعض الطائرات الإسرائيلية بحيث كانت منقطة الجولان مقبرةً لتلك المروحيات وهو ما يؤكد للزائر أن كل الأسلحة المتطورة في تلك الفترة لم تقف أمام إرادة الجنود وبسالتهم للدفاع عن أرضهم.
وقبل أن تدخل الصرح المعماري الفريد ستلاحظ لوحتين فنيتين نُفذتا من الحجر والرخام النافر وتمثل إحداهما معركة ميسلون بقيادة يوسف العظمة والأخرى تجسد الحركة التصحيحية وإنجازاتها في 1970 وظهر فيها التفاف الشعب حول الرئيس الراحل حافظ الأسد.
لوحات زيتية
وفي الداخل قاعة دائرية فرشت أرضيتها بزخارف من الرخام مستوحاة من التاريخ العربي والحضارة العربية يتصدر الجدار لوحة زيتية كبيرة يظهر فيها القائد الخالد حافظ الأسد محاطاً بالجنود وقادة الفرق أثناء إسناد المهام إليهم وتقسيم المسؤوليات وإعطاء التوجيهات، وهي محاطة ببعض الأعلام والرايات التي تمثل قطعة أو تشكيلاً عسكرياً من وحدات الجيش العربي السوري، وتحتضن القاعة أيضاً بعض اللوحات الفنية التي يمتزج فيها تاريخ سورية بحاضرها ومنها لوحة لملك إيبلا عند توقيع معاهدة سلام تمثل توحيد البلاد في الألف الثالث قبل الميلاد، ولوحة تظهر فيها زنوبيا ملكة تدمر التي اشتهرت بذكائها وحنكتها ومشاركتها لزوجها في الحياة السياسية وتمثل هذه اللوحة تأكيداً على الدور المركزي للمرأة في الحياة السياسية إضافة إلى أنها اتجهت إلى توسيع نفوذ إمبراطوريتها وتحرير بلادها، وكذلك لوحة للقائد صلاح الدين الأيوبي ويظهر فيها تذلل وانكسار ملوك الفرنجة بعد أن هزموا وحرر الأيوبي القدس من دناستهم ولوحة للخليفة الوليد بن عبد الملك في الأندلس وبالتأكيد لوحة لمشاركة القوات البحرية في الحرب التحريرية، والوقوف أمام تلك اللوحات يعطي الكثير من مشاعر الفخر والحماس التي تقرؤها في اللوحات.
مرصد جبل الشيخ
كما ترصد قاعة ديوراما على يمين قاعة اللوحات الزيتية التي تمثل مزجاً فنياً بين أرضية المكان واللوحة الفنية المضاءة ليراها المشاهد امتداداً لتلك الطبيعة، وهي تتغنى بمآثر الجيش لتقدم تجسيداً لتحرير مرصد جبل الشيخ الذي كان يعتبره العدو من أهم القلاع المحصنة، ويرافق ذلك عرضاً فنياً بالصوت والصورة يقحمك في صلب الحدث ويضعك في أرض المعركة لتشعر وكأنك أحد أولئك الأبطال، وقد نفذ هذه اللوحة الفنان التشكيلي حيدر يازجي وهو ابن لواء اسكندرون ولذلك فقد حمل هم الوطن وتحريره في جميع أعماله ووضع في تلك اللوحة خبراته الفنية والتقنية ليسطر ملحمة تاريخية مجيدة في تاريخ سورية المعاصر.
إحساس بالواقعية
وفي الطابق العلوي ستجد اللوحة الدائرية الطويلة الممتدة لمسافة تزيد على 130 متراً والتي ستعاين فيها كل تفاصيل المعارك وتعيش الأجواء وتتفاعل معها وكأنك جندي يحمل السلاح فيها بعد أن ترافق المؤثرات الصوتية وبعض شروحات العرض.
وفي أسفلها ستلاحظ الكثير الكثير من المجسمات الشاهدة على ذلك اليوم وتعطيك إحساساً بالواقعية والمصداقية فيمكنك مشاهدة مرتفعات الجولان وتشاهد المنطقة التي حدثت فيها المعركة بعد أن اخترقها الجيش وتوجهت الكثير من وحداته إلى سهل الحولة وبحيرة طبريا.
وكذلك فإن في المتحف قاعة المجد والوفاء التي نرى في صدارتها لوحة عظيمة للقائد الخالد حافظ الأسد مع عدد من أبناء الشعب تمثل الانتصار والمضي قدماً نحو المجد.
ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الصرح العظيم استغرق عدة سنوات لإنجازه واشترك فيه المهندسون السوريون ومعهم الفنانون الكوريون في التخطيط والعمل والتنفيذ وقد تم افتتاحه عام 1998، وكذلك فإن العاصمة المصرية تحتوي صرحاً ومتحفاً حربياً مشابهاً إلى حد كبير لبانوراما حرب تشرين التحريرية في دمشق وهو يحفظ تاريخ ذاك الانتصار ويجسد أحداثه ويخلد ذكره للشعوب.