جذبت زيارة الرئيس بشار الأسد والسيدة عقيلته والوفد المرافق لهما، إلى جمهورية الصين الشعبية، اهتمام المتابعين والمراقبين داخل الإطار الجغرافي لكل منهما، إلى جانب الاهتمام الإقليمي والدولي في ظل المتغيرات التي تشهدها العلاقات الدولية، والضبابية التي سادت مستقبل الحراك العربي باتجاه سورية واستمرار تعنت النظام التركي من تنفيذ التزاماته التي تعهد بها خلال محادثات مسار أستانا أو ضمن اتفاق سوتشي الذي أبرمه مع الجانب الروسي أو من خلال الجمود الذي بات يضبط تفاعلات اللجنة الرباعية.
صحيح أن العلاقات الثنائية بين الدولتين هي قديمة وتعود إلى عام 1956م، وشهدت محطات من التعاون والتقارب الثنائي في مختلف المجالات، إلا أنها لم ترتق بعد لمستوى العلاقة الإستراتيجية، حتى مع استخدام الصين لأول مرة ثماني مرات حق النقض «الفيتو» داخل مجلس الأمن ضد مشاريع قرارات تمس بالسيادة السورية وتشكل تهديداً لاستخدام القوة ضدها، إذ إن استخدام الصين للفيتو داخل أروقة المنظمة الدولية، كان تعبيراً عن حالة التوازن التي كانت قد بدأت تتشكل في هذه المنظمة قبل أن تنعكس في الانقسامات التي تبلورت بالمواقف الدولية خارج هذه الأروقة تزامناً مع تسارع وتيرة تشكيل التحالفات الاقتصادية التي مهدت لطرح مشاريع جيواستراتيجية.
بالعودة لأبعاد هذه الزيارة وأهميتها، يمكن الاستناد للعديد من المؤشرات التي تجعل الشراكة الاستراتيجية بين سورية والصين ضرورية في هذا التوقيت، من خلال الدوافع والمصالح والتحديات المشتركة، وتتمثل أبرز هذه المؤشرات في:
أولاً- الصين التي مرت بثلاث مراحل خلال العقود الثلاثة السابقة والتي تمثلت بمرحلة الخروج من الانكفاء الذاتي لمعالجة المشكلات الداخلية وبعد استكمال الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والحزبية المنشودة، والانتقال لمرحلة ما بعد طرح مبادرة الحزام والطريق، وصولاً لمرحلة لعب دبلوماسيتها دوراً في حل الأزمات وسحب فتيل الصراعات، ولعل رعايتها للمصالحة السعودية الإيرانية خير دليل على هذا التوجه، يمكنها أن تؤدي دوراً محورياً في دفع العملية السياسية لحل الأزمة السورية، من خلال مسارين: الأول المرونة والقدرة على التواصل مع فواعل الأزمة السوريين لكون الصين لم تقطع علاقاتها مع الجانب الحكومي الرسمي ولا مع القوى المحسوبة على المعارضة، رغم تبنيها موقفاً صلباً في المحافل الدولية الرافضة للتدخل الخارجي، أما المسار الثاني فإنه يتمثل في احتمالية التأثير الذي قد تؤديه الصين على القوى الإقليمية المعطلة للمسار السياسي في سورية انطلاقاً من تنامي علاقاتها معها مثل السعودية والإمارات ومصر وتركيا، إضافة لعامل المصلحة الذي بات اليوم يشكل ركيزة في تغيير سلوك الدول، وعامل التحالف المتنامي بين روسيا والصين والأخيرة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذا الجهد الصيني هو ليس بجديد بل يستند إلى مبادرة صينية سابقة أطلقت عام 2021 وتضمنت أربعة بنود رئيسية.
ثانياً- التحديات والمخاطر المشتركة، إذ تواجه اليوم كل من سورية والصين إضافة لدول أخرى قريبة منهما، مخاطر وتحديات جسيمة، تتطلب المزيد من الخطوات للارتقاء بالعلاقات الثنائية، أهمها:
– البعد الأمني: إذ إنه كما لسورية مصلحة في القضاء على التنظيمات الإرهابية الموجودة في الشمال الغربي من سورية وفي مقدمتهم الإيغوار وحزب التركستاني وغيرهم، فإن للصين أيضاً مصلحة واهتماماً لمنع عودة هؤلاء إلى مناطقهم بما قد يحملونه من مقدرات ومخاطر وتوظيف قد يشكل خطراً على أمنها القومي، كما أن دمشق وبكين ليست لها ثقة بالجانب التركي، لكون الأخير يوظف ملف الإيغوار وما يسمى الدفاع عن الأقليات المسلمة ووجود جماعات من جذور تركيا تمتد للعمق الآسيوي للضغط على الصين، وهو ما دفع مجموعة «بريكس» لعدم قبول عضوية تركيا بها رغم ما تمتلكه تركيا من مقومات أكثر تقدماً من بعض الدول الست المقبولة.
– البعد الجيواستراتيجي: وهذا البعد يرتبط جزء منه بالبعد السابق والذي يتمثل في خطورة إقدام الولايات المتحدة الأميركية بشكل مباشر أو عبر وكلائها، بإغلاق الحدود السورية العراقية، ما قد يقطع الطريق أمام «مشروع الحزام والطريق»، في ظل التوجه الأميركي لدعم الممر الهندي الأوروبي الذي سيمر عبر دول الخليج والأردن وفلسطين المحتلة، بالتزامن مع عدم ضمان السلوك التركي مستقبلاً، كما أن الضغوط الأميركية على سورية وتعطيلها لمسارات الحل السياسي وتعزيز التوجه الأميركي لدعم النزاعات والصراعات العرقية والطائفية في المنطقة يهدد المصالح الصينية، كما أن هناك توافقاً سورياً صينياً إلى جانب مطالب دول صاعدة عديدة لضرورة كسر الأحادية الدولية، لذلك فإن البعد الجيواستراتيجي تمثل في مبدأين: الأول المصلحة المشتركة، والثاني المواقف والتوجهات المتقاربة.
• البعد الاقتصادي: وهو البعد الذي لا يمكن فصله عن البعدين السابقين، بل مرتبط بهما ارتباطاً عضوياً، ويمثل حاجة لكل من سورية والصين وفق الآتي:
أولاً- بالنسبة لسورية تمثل الصين في هذا التوقيت داعماً قوياً في المجال الاقتصادي بعد تبني الصين لسنوات عديدة من عمر الحرب على سورية سياسة «الحذر المفرط» وكان هناك تفهم سوري لذلك انطلاقاً من عدم رغبة بكين لخوض صراع مباشر مع واشنطن أو بهدف تطوير علاقاتها مع دول المنطقة أو لأهداف أخرى، ولكن في ظل اشتداد الصراع الدولي سواء من خلال ما يحصل في أوكرانيا أو الاستفزازات الأميركية بملف تايوان أو التهديدات بفصل الجغرافية السورية عن العراقية ونشر الفوضى في المنطقة أو التطورات المتسعة في القارة السمراء، وتبني واشنطن لمشروع جيواقتصادي هندي- أوروبي، لاحتواء المشروع الصيني، لا يبدو أن الدبلوماسية الصينية ستبقى في حال حذرها السابقة، لذلك نعتقد أن الصين من الممكن أن تحدث خرقاً في جدار العقوبات بعد جمود المبادرة العربية نتيجة أسباب عدة، وهذا الخرق يتمثل في مجالين، الأول هو إسعافي آني يحد من تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي للسوريين من خلال تقديم القروض الميسرة والاتفاق على إطلاق خط ائتماني وتقديم الإمكانات لمعالجة البنية التحتية المتهالكة في مجال الطاقة وغيرها من المجالات التي تمهد لحضور صيني كبير في مشروع إعادة الإعمار، أما المجال الثاني الاستفادة السورية من التطورات الحاصلة لإعادة تموضعها ضمن مشروع الحزام والطريق وتحولها لركيزة حيوية من خلاله، وخاصة لما تمتلكه سورية من واجهة بحرية تسمح للتنين الصيني بالولوج نحو المتوسط، وجغرافيتها الرابطة بين آسيا وأفريقيا.
ثانياً- بالنسبة للصين فإن سورية تشكل سوقاً مهماً للاستثمارات الصينية مستقبلاً، لذلك فإن الصين التي وقفت إلى جانب الشعب السوري أثناء انتشار وباء كورونا وكارثة الزلزال، لن تتوانى عن تقديم المساعدة الإسعافية بهذا التوقيت نتيجة حرصها على ثبات الموقف السوري المناوئ لواشنطن وسياستها والحفاظ على الجغرافيا التي باتت اليوم حاجة صينية مهمة لاستكمال الحزام والطريق والاستفادة من عقدة المواصلات والطاقة في المنطقة، أما على المستوى الاستراتيجي فإن الصين التي تمتلك قدرات وإمكانات وخبرات هائلة، ترغب وبقوة في حجز مساحة كبيرة لها في مشروع إعادة الإعمار نظراً للأرباح التي قد تعود على شركاتها.
من المؤكد أن هذه الزيارة واللقاءات التي عقدها الرئيس الأسد في الصين الشعبية مع كبار المسؤولين وفي مقدمتهم الرئيس الصيني شي جين بينغ، لم ترض الدول المعتدية على سورية وقد عبرت عن ذلك وسائل إعلامها التي وصفت دعوة الرئيس الأسد إلى الصين بأنها كسر للهيمنة والإرادة الأميركية في فرض العزلة الدولية، ولكن اليوم لابد لنا من التفكير خارج الصندوق قليلاً والحديث بصوت مرتفع في إثارة العصف الذهني الذي نحن بأمس الحاجة إليه لتجاوز هذه المرحلة في عدة نقاط وتفعيل الشراكة الاستراتيجية، في مقدمتها الاستفادة من التجربة الصينية في إنجاز الإصلاحات الاقتصادية والإدارية وخاصة فيما يتعلق بتخفيف الإجراءات البيروقراطية والحد من الفساد وإعادة النظر بالقوانين الاستثمارية، لتأمين مقومات جذب رأس المال الصيني إلى سورية.