هذا العنوان لكتاب ألفه الباحث الأميركي ريتشارد نيسبيت، نشر في عام 2003، وترجمه للعربية المركز القومي للترجمة في القاهرة عام 2014 (شوقي جلال)، ويعنون العالم الأميركي هذا الكتاب بطرح شائق هو: كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف؟ ولماذا؟
مناسبة الكتاب عن هذا الموضوع في هذا التوقيت أكثر من مهمة على خلفية التطورات والتغيرات التي يشهدها النظام العالمي، والصراعات التي يشهدها هذا الكون، ومحاولات الغرب منذ قرون فرض رؤيته على العالم، والمجتمعات من ناحية شكل النظام السياسي، ونمط الديمقراطية والحريات التي يجب أن نؤمن بها، وكيف يجب أن نلبس ونأكل وننام، وأي رئيس يجب أن ننتخب، وصولاً لكتابة دساتير البلدان التي تعكس الفلسفة السياسية الغربية، ومصالح هذه الدول، وتطوير طرقها في نهب ثروات الشعوب تحت عناوين براقة وجذابة، من دون أن يعني ذلك أننا مجتمعات ليست بحاجة للتطوير، والتطور، والنقلات الحضارية، لكن ليس من خلال التقليد، ونقل التجارب فقط ودون إعطائها طابعاً، وخصوصية محلية ترتبط بظروف التطور التاريخي والاجتماعي والاقتصادي، وبطرق التفكير وأنماطها في دولنا ومجتمعاتنا، وإنما من خلال دراسة تاريخنا وثقافتنا، وتطورنا، واستنباط ما يناسبنا منها من دون الاستسلام الكامل لما يأتينا من الغرب، والقول إنه الحقيقة المطلقة، لا بل إن السؤال المطروح دائماً هو: كيف نوائم بين الأصالة والمعاصرة؟
فكرة هذا الكتاب انطلقت من نقاش جرى بين المؤلف، وطالبه الصيني الذي كان يقوم بأبحاث في علم النفس الاجتماعي والاستدلال العقلي، إذ فاجأ الطالب أستاذه بالقول: «هل تعرف أن الفارق بيني وبينك أنني أرى العالم دائرة، وأنت تراه خطاً مستقيماً».
ليتابع الطالب شرح الفكرة لأستاذه: «يؤمن الصينيون بالتغير المطرد أبداً، ولكن مع إيمان بأن الأشياء دائماً وأبداً تتحرك مرتدة إلى حالة ما كانت في البدء، وإنهم يولون اهتمامهم لنطاق واسع من الأحداث، يبحثون عن العلاقات بين الأشياء، ويظنون أن لا سبيل أمامهم لفهم الجزء من دون فهم الكل، بينما يعيش الغربيون في عالم أبسط حالاً، وأقل خضوعاً للحتمية، إنهم يركزون انتباههم على موضوعات أو أناس لها وجودها الفردي البارز دون الصورة الأكبر، ويظنون أن بوسعهم التحكم في الأحداث لأنهم يعرفون القواعد والقوانين الحاكمة لسلوك الأشياء».
بدا الأستاذ الأميركي كما يقول في مقدمة الكتاب شاكاً فيما طرحه طالبه لأنه عاش طوال حياته مؤمناً بنظرة كلية شمولية إلى الطبيعة والفكر البشري، والتزام المسار الغربي في النظرة الفلسفية التي تقول إن جميع البشر يدركون بحواسهم، ويستدلون بعقولهم بطريقة واحدة، ليكتشف لاحقاً بعد التعمق في الدراسات والأبحاث أن نظرة طالبه صحيحة، وأن أبناء الثقافات المختلفة يختلفون عن بعضهم في رؤاهم، ومعتقداتهم الأساسية عن طبيعة العالم، وأن عمليات الفكر المميزة لدى الجماعات المختلفة فيها اختلافات واضحة، كما أن عمليات الفكر هي جزء من المعتقدات عن طبيعة العالم، ليشير لاحقاً إلى أن الهياكل الاجتماعية ومعنى الذات اللتان تميزان الشرقيين والغربيين تتلاءمان تماماً مع المنظومات العقيدية، والعمليات المعرفية عند كل منهما، ليفسر ذلك بالطبيعة الجمعية، أو التكاملية للمجتمع الآسيوي، والتي تتفق مع نظرة الآسيويين العامة، والمتداخلة عن العالم، وإيمانهم بأن الأحداث شديدة التعقيد، والتحديد بسبب عوامل كثيرة، بينما تبدو الطبيعة الفردية أو المستقلة للمجتمع الغربي منسقة مع تركيز الغرب على الموضوعات الجزئية في استقلالها عن سياقها الكلي، وإيمان الغربيين أن بإمكانهم معرفة القواعد والقوانين الحاكمة للموضوعات، ومن ثم يمكنهم التحكم في سلوكها.
لا يخفي هذا العالم الأميركي أن الهدف من كتابه هو الإجابة عن سؤال: الكيفية التي يمكن بها للشرق والغرب أن يمضيا معاً في علاقات أفضل تأسيساً على فهم متبادل للفوارق الذهنية والفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ليعترف أن كثيرين في بلدان الشرق يؤمنون (ولهم بعض الحق) حسب قوله: إن القرون الخمسة الماضية للهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية الغربية، جعلت الغرب متغطرساً فكرياً ومعنوياً.
هذا الاعتراف بالغطرسة الغربية في المجالات كافة هو مهم جداً في هذا الزمن التحولي الكبير، حيث تبرز قوى صاعدة، وجديدة تعتز بهويتها وانتمائها وتاريخها وعاداتها وتقاليدها، والأهم لغتها، وتطرح مقاربات جديدة للنظام الدولي كما تفعل الصين حين طرح الرئيس شي جين بينغ مبادرة الحزام والطريق، ومبادرة الحضارة العالمية، ومبادرة الأمن العالمي وغيرها من المبادرات منطلقاً من الفلسفة والحكمة الصينية، ومنهج التفكير الصيني وليس الغربي، إذ تقوم هذه المبادرات على منطق مختلف عن المنطق الغربي، إذ تؤكد الصين المبادئ المشتركة للبشر، والمنافع المتبادلة، والحق في احترام الثقافات والحضارات لشعوب الأرض، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام سيادة الدول، والاستناد للربح المشترك.
هذه المقاربات الصينية يفسرها البعض وفق القواعد الغربية وفلسفتها وأنانيتها وسياساتها منذ خمسمئة سنة، ويعملون على التشكيك بها منطلقين مما تروج له الدعاية الغربية التي ترى الدول والشعوب والقادة بمرآتها هي، وبممارساتها هي، ولذلك مازال الغربيون يقسمون العالم إلى ديمقراطيين وديكتاتوريين على الرغم من أن فهمنا للديمقراطية بالمنظور الغربي هو القدرة على تحقيق مصالح شركاتها، ونهب الشعوب، وامتهان السيادة الوطنية، واحتلال أراضي الآخرين، ووجود رؤساء دول منبطحين، مُلبين للمصالح الغربية، أما الزعماء والقادة الذين يدافعون عن مصالحهم الوطنية، ويعملون على الحفاظ على ثقافة، وحضارة شعوبهم ومجتمعاتهم، فهم بالمنظار الغربي ديكتاتوريون ومتسلطون، ويجب الإطاحة بهم.
إن ما يطرحه هذا الكتاب يكشف التمايز بين أنماط التفكير والقواعد والقوانين التي تنشأ عبر مرور السنين، والناتجة عن التفاعل بين الإنسان والمجتمع والبيئة، لينتج عنها بيئة طبيعية، وثقافية مرتبطة بالزمان، والمكان، ما يطرح علينا أسئلة مهمة، وجوهرية نحتاج للإجابة عنها من خلال بحوث، ودراسات تاريخية، اجتماعية، وسياسية، وجغرافية، وثقافية تجيب عنها وتفسر لنا الجذور الثقافية، والتاريخية التي شكلت نمط تفكيرنا، وماذا علينا أن نفعل لتطوير الذات، ومدارس التفكير التي تقف عند اللونين الأبيض أو الأسود!
ولماذا لا نقرأ تاريخنا القديم، ونربطه بالحديث، ونحاول استخلاص العبر والدروس للأجيال القادمة، ونجعل الانسجام في الهوية والانتماء صلباً وقوياً، بدلاً من أن نكتشف أن لدينا من ما زال يحن لزمن السلطنة العثمانية، وتغريه طروحات الغرب المنافقة، ولا يتعلم من التاريخ شيئاً!
ثم من قال إن الديمقراطية الغربية هي النموذج الوحيد الناجح، والذي لا يمكن تطويره إلا وفقاً للأدوات والرؤية ذاتها، لتنتج الأمراض نفسها التي يعاني منها المجتمع الغربي، وأي نموذج يصلح في مجتمعاتنا؟
أما الأهم فهي الرواية الغربية حول الأنا الفردية ومسألة حقوق الإنسان وحرياته، وهي مسألة بحاجة لسؤال كبير: هل الأولوية للحريات الفردية، أم حرية الأوطان وسيادتها، وهل تطوير الحريات الفردية يؤدي لتطوير عقل جمعي يفكر بمجتمعه، ووطنه، ورفعة أمته؟!
أسئلة كثيرة قابلة للنقاش، والحوار لأخذ خلاصات تشكل زاداً مهماً للمستقبل، ولبناء أفضل، وتطرح علينا تحديات كبيرة في عالم لا يؤمن بالكسالى وغير المنتجين، بل يؤمن بالأقوياء علمياً، ومعرفياً، وهذا هو التحدي الأكبر.