قضايا وآراء

السادس من تشرين بين شهداءِ الكلية الحربية وانتصارات المقاومين.. وجه الشرق لن يتبدل

| فراس عزيز ديب

أسوأ الخيانات أن يخونك القلم، أن تقفَ أمام الفاجعة وأنتَ تريد أن تكتب لكن الفاجعة أكبرَ من كل ما سيبدعه الفكر، أعترف بأن العمل الإرهابي الذي ضربَ حفل تخرج طلاب الكلية الحربية وذويهم في حمص حجَّمني تماماً لدرجةٍ اخترتُ معها البكاءَ بصمت، أدركتُ بأن الراحل نزار قباني لم يقل عن عبث عبارته الشهيرة للقائد الراحل حافظ الأسد: «أعرف أن كل المراثي في الدنيا لا تكفي لرثاء وردة»، فكيفَ هو الحال وأنت أمام معركةِ رثاءٍ لحديقةٍ من ورود؟ ربما نحن من يحتاج للرثاء!

سخر القلم من تلكَ المحاولات الفاشلة، كيفَ لكَ أن ترثي من كان يقبل يد والدته فرحاً بتخرجه فرافقته حيث جنات النعيم؟ كيف لكَ أن ترثي طفلة تركت ألعابها في المنزل على أملِ اللقاء بعدَ أن تشارك شقيقها فرحته بالتخرج، ضفرَت جدائِلها وارتدت أجمل مالديها وكأنها كانت تشعر بأن اللقاء أبعد من مجردِ حفل تخرج، أبعد من مجردِ قسمٍ على الوفاء للوطن، طوبى لكِ يا طفلتي الجميلة ما أجملَ لقاء العزيز المقتدر على صيحات قسم الوفاء للوطن، حاولتُ جاهداً أن أهربَ من صورتها التي كانت تلاحقني من دمعةٍ إلى دمعة لدرجةٍ شعرت فيها أن ابتسامتها كانت قسماً ووجهها الممتلئ بالفخر كتاباً سماوياً، ضفائرها كانت حبلَ انتماءٍ للناجين من سكاكين الغدر وبالوقت ذاته حبلَ مشنقةٍ لكلِّ أولئك الصامتين عن الحق، تخيل أن يمتلك البعض من الدناءة حتى العجز عن النعي، بالعجز عن مشاركةِ وطنه وأبناء وطنه هذا المصاب، فقط أبعدوا عني صورة جدائل تلك الطفلة وابتسامتها حتى أتمكن من الكتابة، حتى جاءَ السادس من تشرين ولنا مع تشرين حكايا لم ينساها أعداؤنا لكن وعدنا بأن نُعيد استذكارها على طريقتنا، ولأننا كسوريين متمسكون بخيار الانتماء للوطن كنا وما نزال وسنبقى ندرك بوصلتنا، سنبقى نعرف بأن محرك الشر في المنطقة هو الكيان الإسرائيلي وما دونه من متأسلمين مجردُ أدوات، بدت الصور القادمة من فلسطين المحتلة بمثابة العزاء الحقيقي لما جرى في حمص، نعم أعشقُ تلكَ المقولة: وطني.. حيث ينهزمون!

فُتحت معركة «طوفان الأقصى» هذا في الظاهر أما في الباطن فهي معركة كل الموجوعين على هذهِ الأرض، هي معركة كل مهجّرٍ ولاجئ وبريء في هذا العالم دفعَ ما دفعهُ من أثمانٍ لـ«تحيا إسرائيل»، ومن يتابع مسار الأمور سيلاحظ أنها جاءت مستفيدة من أسباب كثيرة، منها الوضع الداخلي المترهِّل للكيان الصهيوني ومنها أيضاً الوضع الإقليمي الملتهب الذي لن تنفع معهُ دعوات تطبيعٍ هنا أو استسلامٍ هناك، والأدق هو القول: إن هذه المعركة حملت الكثير من المفاجآت التي يمكننا تلخيصها بما يلي:

أولاً: معركة خارج سياق الأحداث

لقد بدَت هذهِ المعركة خارجَ سياق المسار الدولي والإقليمي تحديداً فيما يتعلق بالسعي لفصل القيادة السورية عن دعم المقاومة تمهيداً لإعلان الصفقة الكبرى المتعلقة بالتطبيع مقابل السلام والرخاء حتى ضمن الأراضي الفلسطينية، جميع المبادرات كانت تدور حول نقطة واحدة هي أن عدم «سقوط النظام» من وجهةِ نظرهم، أو النجاح بتحييده، سيُنهي أي حلمٍ بتصفيةِ المقاومات المنتشرة في محيط الكيان الصهيوني، وبالتالي كان هناك من يراهن على حاجة القيادة السورية للحل بعدَ اشتداد سياسة العقوبات والحرب بالوكالة في إطار تردي الأوضاع الاقتصادية نتيجة للعقوبات والاحتلال الأميركي لحقول النفط السورية وسرقتها، وهذا الكلام أو ما يشببه، قلناهُ في الأسبوع الماضي بمعرضِ الحديث عن اتفاق التطبيع بين المملكة العربية السعودية والكيان الصهيوني، وقلنا إن هناك مبالغة في توصيف هذا الاتفاق وكأنهُ سيبدل وجهَ الشرق، هذا الاتفاق لن يتعدى بتأثيراتهِ حدود «البلدين» مالم يكن في إطار حل عادلٍ وشامل، ما يعني أن عدم القدرة على كسر أو استرضاء أو استمالة القيادة السورية سيترك المعركة مفتوحة بعكس ما كان متوقعاً!

ثانياً: السلاح النوعي.. سورية هي اللغز

خلال سنوات الحرب، تصاعدت الضربات الجوية ضد أهدافٍ سورية إما بذريعة ضرب مصانع للسلاح أو شحنات سلاح بطريقها إلى المقاومتين الفلسطينية أو اللبنانية، ولم يكن خافياً على أحد أن ما تلقتهُ سورية من ضرباتٍ جوية على أهدافٍ عسكرية خلال السنوات الماضية كانتَ مؤلمة لأن القيادة كان عليها الموازنة بين أمرين، الأمر الأول امتصاص الغضب الشعبي من عدمِ الرد على اعتبار أن كل ما يجري هو تجهيز لمعركة أهم، أما الأمر الثاني فهي القدرة على الصمود بتحملِ تبعاتِ اللعب بالخطوط الحمراء، وكان الإسرائيلي بالسياق ذاته مدركاً لفكرةِ أن القيادة السورية ليسَ لديها ما تخسره، تحديداً أن الرئيس بشار الأسد قالها منذ الخطاب الأول بعدَ أول تظاهرة في درعا: «إن أردتموها حرباً مفتوحة لتكن حرباً مفتوحة»، كل طرف فهم مفهوم هذه الحرب بالطريقة التي تناسبه وحدها القيادة السورية حولت مفهوم الحرب المفتوحة إلى حدودٍ مفتوحة على دعمِ المقاومين، من أوصلَ السلاح إلى الضفة التي تبدو عصية حتى على دخول السنونو؟

كانت فرضية الهروب من وصول سلاح نوعي إلى المقاومة عبر سورية تؤرق الكيان، لكن بالوقت ذاته كانت فكرة تمكن المقاومة من تصنيع ما تحتاجهُ بجهودٍ ذاتية عبر التقنيات القادمة إليها من سورية أكثر إيلاماً، اليوم باتَ الكيان يعاني من الكوابيس الثلاثة والتي التقت بنقطةٍ واحدة اسمها السلاح النوعي بيد المقاومة الذي حول قببهم الحديدية إلى أضحوكة وشعبهم المختار إلى أسرى!

ثالثاً: امتلاك المقاومين زمام المبادرة

يوماً ما تحدث الأمين العام لحزب اللـه في لبنان حسن نصر اللـه عن فكرة اجتياح الجليل، كما العادة في هذا الشرق البائِس، فإن كلامهُ الذي أُخذَ على محملِ الجد في الكيان الصهيوني لدرجةٍ بات معها سكان مستوطنات الشمال يخافونَ من سماعِ أي ضجيج، فإن كلامه قوبل بالكثير من التبسيط والتقليل في أوساط من يسمونَ أنفسهم نخباً مثقفة، ليسَ هذا فحسب، بل الكثير من العبارات التي كان يطلقها من لايزال يجاهر بتأييد الحقوق المشروعة للشعب العربي في وجهِ الكيان الغاصب، كانت تقابل بالكثيرِ من التقليل، واليوم، أينَ هم من كانوا يسخرون من عبارةِ الرد في المكان والزمان المناسبين؟ أين هم من كانوا يسخرون من عبارةِ لن نسمح للعدو باختيار توقيت أي معركة؟

إن امتلاك المقاومين اليوم زمامَ المبادرة وما تخللهُ من اجتياحٍ للمستوطنات القريبة من قطاعِ غزة، هو صورة مصغرة عما قد يجري في حال اتساع رقعةِ المعركة، الجميع شاهدَ نقل الأسرى المستوطنين بعربةِ «التيكتوك» إلى قطاعِ غزة، أو ما يعرف لدينا كسوريين باسم «طرطيرة»، لا تمروا على هذا الفيديو مروراً عابراً، إنه فيديو يحكي لنا الكثير، إذا كانت هذهِ العربة لا تتجاوز سرعتها 50 كيلو متراً في الساعة بالحد الأقصى، فهذا يعني أن المقاومين يتعاطون بأريحية مطلقة، أين من يدافع عن هؤلاء لماذا هرب؟ هل لكم أن تتخيلوا حجم الفراغ الذي تركهُ الجنود الصهاينة بهروبهم؟

أما الكلام إن كانت الرقعة ستتسع أم لا، فلا أحد يملك جواباً إلا قادة المقاومة ودولة المقاومة، لكن بالسياق ذاته علينا عدم الإسهاب بالحديثِ عن زمام المبادرة وتجاهل الفكرة الأهم وهي إعلان الجناح العسكري لحركة حماس الذي كان ولا يزال يبادل الدولة السورية الوفاء بالوفاء عن توحيد جهود جميع الفصائل في القطاع لخوض المعركة، هذه الحركة المفاجئة للكيان ومن سيلوذ من الأعراب طلباً للتهدئة، التي ستسهم إلى حدٍّ بعيد بتقوية الموقف المقاوم في المعركة تحديداً بعدَ إعلان الكيان الصهيوني معركة «السيوف الحديدية» ضد قطاع غزة؟ هل ستقف المعركة عند هذا الحد؟! الجميع ينتظر ويترقب لكن الفرص لا تأتي كل يوم وبمعنى آخر: ستترك هذه المعركة أثراً كبيراً في مستقبل الصراع في المنطقة والنتائج ستظهر تباعاً بغض النظر إن تواصلت أو توقفت، لكنها فعلياً تشرينٌ جديد أثبت لنا بأن تشرين لن يموت طالما البندقية تزغرد، أما من يفكر بأن اتفاقاً تطبيعياً سيبدل وجه الشرق، عليه أن يفهم بأن وجه هذا الشرق لن يتبدل إلا إذا بدلت سورية وجهها، لكن لسوءِ حظهم فإن وجه سورية هو صورة دائمة عن صورة تلك الطفلة التي قتلتهم على مذبح الكلية الحربية بابتسامتها وأعدمتهم بضفائرها، فقط عندما تقدرون على تبديل ملامح هذه الطفلة وهي تواجه إرهابكم بابتسامة تستطيعون تبديل وجه سورية وبالتالي وجه الشرق ماعدا ذلك، فالمعركة مستمرة حتى يأتي أمر الله..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن