قضايا وآراء

عندما استشهدت حمص بين يدي مرتين.. في يافا ولندن!

| أ. د. مكرم خوري - مخول

الصدمات النفسية نتيجة الفقدان لا تُمحى.. بسبب الانشغال وتسارع الأحداث اليومية أنت تعتقد بين الفينة والأخرى أنه تم شطبها من أعماق الذاكرة إلى الأبد بعد مر السنين.

إلا أنها مخادعة، هذه الصدمات، تختبئ بسلاسة لولبية، ولكنها تبقى مكمورة لوقت طويل حتى تأتي صدمة أكبر منها فتعمل على إيقاظها بصدمة مدوية أخرى، كالعاصفة، بعملية النفخ في الرماد حتى يبرز احمرار الجمر، فتشتعل مجدداً، ومجزرة الكلية الحربية في حمص، أشعلتها بحجم متعملق.

مثل هذه الليلة تماماً قبل ٣٩ عاماً وذلك في 5 تشرين الأول 1984 وأنا في المرحلة الثانوية وقع حادث عائلي مروع، إذ حاولت إنقاذ والدتي من نوبة قلبية فجائية حادة أصابتها في البيت، وكان ذلك مساء يوم الجمعة وصادف «عيد الغفران» اليهودي، ورغم الطلب المتواصل، لم تصل سيارة الإسعاف، ورغم محاولاتي اللامتناهية بالإنعاش، فقد قررت والدتي، وهي الأديبة الروائية، الفراق المبكر بأسلوب شكسبيري تراجيدي وهي في الـ56 من عمرها فقط، لاحقة بوالدتها الحمصية. كانت والدتي أنطوانيت نصف حمصية ونصف يافية، نصف فلسطينية ونصف سورية، عربية بالكامل وعروبية بالحجاب الذي اكتشفناه في محفظتها بعد وفاتها!

كما حصل يوم 5 تشرين الأول 2023 في حمص. فمنذ ذلك الحين، كل خامس من تشرين الأول يأتي بحدث كبير، مفرح أحياناً، ومفجع في أكثر الأحيان، ولكن ليس أكثر من اليوم في حمص، ورغم مرور نحو أربعة عقود، لم أشعر بعمق تمثيل عملية الإنقاذ والإسعاف التي قمت بها أثناء غيبوبة والدتي قبل وفاتها، أكثر من اليوم عندما شاهدت مناظر المجزرة الإرهابية الفاشية المروعة في الكلية الحربية في حمص. الذكاء الاصطناعي لم يجعلنا بعد نقدّم الإسعاف عبر الفضاء العمومي، وتباً له هذا الذكاء المزدوج. كيف سأحمل نفسي من لندن وأطير إلى حمص للتبرع بالدم والحصار السياسي خانق والعقوبات الاقتصادية جعلتنا نتوجه للقضاء ضد الحكومة البريطانية؟ كيف سأقوم بمواساة اليتامى على خسارتهم لذويهم، ولتعزية الثكالى لفقدان مهجات قلوبهن وفراقهم لفلذات أكبادهن؟ وصلت نحوي وبصفاء كامل أصوات والدتي النصف حمصية وجدتي الحمصية بالكامل إذ تعالت من مقابر يافا مدوية في أذني في لندن طالبة مني مساعدة حمص فوراً.

هو صراع سياسي – جغرافي، فعلاقتي النفسية مع حمص نبعت لكوني ترعرعت في بيت كان منذ ولادتي يدار من جدتي السورية – الفلسطينية – الحمصية – اليافية، جدتي التي عرفت باسم «مدام خوري» التي كانت لي «تيتا» الأم الكبرى كما قامت بدور الأب وسُميت بـ«أم الكل» في يافا لأنها كانت كذلك للمجتمع العربي ولنسائه بالتحديد.

كل ما يحصل في حمص يقرع ناقوساً يشعرنا وكأنه يحدث في البهو الذي نقيم به في يافا. نشأت في هذا البيت في حي العجمي قبالة البحر، وأنا استمع إلى قصص هدرت عبر رياح سورية من الشمال حاكت الصمود العربي الفلسطيني في كل خريف وشتاء، عبارات لفظية سورية في العامية والفصحى كانت جزءاً من قهوة الصباح وعشاء المساء حول جمر المنقل النحاسي الشامي الكبير الذي حافظ على حرارة المنزل من غضب البحر المٌغتَصَب، هو الجمر ذاته الذي أشعل صدمة الصدمة من مجزرة الكلية الحربية.

هي حمص بكل ما فيها، من قريب أو بعيد، من مواطن محلي أو زائر مقيم قادم إليها، تماماً كفسيفساء شهداء الكلية الحربية. قصص جدتي عن عائلتها وأهلها وجيرانها في حمص جعلتني أتخيل طفولة وشباب جدتي ونشأتها. تمازجت مع صور الأطفال الذين قتلوا في مجزرة حمص، ففي مكتبة جدي الخاصة في يافا، عُلقت صور المشاهير في الأدب والفن والعلم حتى إنني تعرفت على أناس عايشوا حقبات تاريخية فكانوا أصدقاء جدي وشقيق جدتي المرحوم البروفيسور انطوان ضومط بلاّن السوري الحمصي، نزيل الناصرة، والذي بعد قضاء فترة تعليم جامعية طويلة في معاهد موسكو وكييف عاد مكلفاً لإدارة المعاهد الروسية العليا في بلاد الشام، فقد تتلمذ على يديه في دار المعلمين، السمنار، الروسي في الناصرة، الكثر ومنهم أذكر الكاتب الشهير ميخائيل نعيمة الذي ذكره في «سبعون». انطوان ضومط بلان الذي ألف ونشر في عام ١٩١٣ في حمص أول كتاب بالعربية لتدريس مادة الجغرافيا، اختلطت الكليات الروسية والسورية والفلسطينية والحمصية والكلية الحربية.

إنه خيط الدم الممتد غير المنقطع، مشاهد الجثث والهلع في المجزرة يوم الخميس الفائت اختلطت مع الذاكرة الشفوية الخلابة التي شرحتها لنا جدتي، «تيتا بلاجيا» وفي شغف عميق، حيث كانت تضبط أعصابها ململمة أصابع كفتيها وفي أسرع من البرق تدع مآقيها تعبر عما تشعر به، كيف قام أخوها المقدام أنطوان الذي كبرها بخمسة عشر عاماً، وذلك بعد أن وقف عند مستوى ذكائها، بأخذها رغم اعتراض أهلهما، من بيت عائلتهم في البلدة القديمة في حمص، وذلك أثناء الحرب العالمية الأولى، لتدرس في السمنار الروسي – للبنات في بيت جالا، قضاء مهد السيد المسيح في بيت لحم فلسطين؛ حيث سمعت أنا مع بقية أفراد الأسرة، كطفل ولأول مرة مصطلح «السفر برلك» والمخاطر التي مروا بها للوصول إلى الناصرة وبعدها إلى القدس وبيت لحم. ضبط الأعصاب نوع من ممارسة البرود في الرد، لكن لا يمنع ضرورة رد الصاع صاعين على المجزرة النازية.

ما يجعلني أشعر بهذا الترابط النفسي مع حمص وكل ما فيها؛ وكل ما حصل ويحصل فيها ومع أهلها أو مع كل قادم إليها، هو أن جدتي كانت قد حولت «بيتنا- بيتها» في يافا إلى خلطة عربية لا مثيل لها، فقد كانت حمص، لا بل سورية كلها في يافا، أم الغريب، ونبضت في جدتي عروبة فولاذية ذكية ناضلت لعقود طويلة وباستمرار وبهدوء ومراوغة دبلوماسية وبصبر حكيم لم يعرف الكلل.

حصلت المجزرة في حفل تخرج الضباط في الكلية الحربية في حمص، فتذكرت بأن جدتي الحمصية تخرجت من كلية السمنار الروسي في بيت جالا أثناء الاحتلال العثماني وكمعلمة عام 1921 أثناء الاحتلال البريطاني عندما لم يكن التعليم متاحاً لأغلبية نساء العالم حتى من الأسر الملكية، وأعطت أحفادها بعد نصف قرن من تخرجها دروساً في التاريخ والجغرافيا والرياضيات. ولكن أهم من ذلك أعطتهم دروساً بالصمود العقلاني المنضبط وبكلامها الموزون والذي غرد دائماً في الوقت المناسب.

مررت في حالة تماه متكامل يوم المجزرة في حمص، وكأنني هناك، ولكنني هنا، لأنني من هناك مع أنني هنا، إذ أردت التواصل الفوري، فانقطعت جدتي عن مسقط رأسها حمص وموطنها سورية الحبيبة إلى الأبد ورفضت تعلم لغة الاحتلال. فصممت التحدث بالروسية مع الطبقة الراقية من المستعمرين الجدد، فقد سمعت من شقيقها صديق الأديبين الروسيين أنطوان تشيخوف ومكسيم غوركي وأبدعت باللغة الروسية. إلا أن حمص عاشت في كل جملة وقصة و«كويرة كبة» أعدتها لنا لدرجة أنني أظن الآن أنها تواصلت مع وطنها وعاشت به وعاش بها وقامت «بتصديره وتسويقه» لنا عبر القصص والمأكولات السورية الشهية.

فقد عاشت جدتي السورية الحمصية – اليافية، وما الفرق؟ وصمدت وعشنا تحت الاحتلال الإسرائيلي ورغم ثقافتها السياسية العالية وتجاربها خلال الحرب العالمية الأولى والاستعمار الفرنسي في سورية وبعدها الحرب العالمية الثانية والاستعمار البريطاني في فلسطين والذي لاحق أخاها المعلم انطوان بلان في غرف التدريس في السمنار الروسي لمواقفه الوطنية وكان ذلك كغير عادة من يعمل في سلك التعليم، والآن تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، قررت جدتي الآن، بعد وفاة أخيها عام 1940 وزوجها عام 1947 وعيشها كأرملة مع ابنتها الوحيدة)، ألا تتكلم بالسياسة الحزبية أو القطرية أو العالمية على الإطلاق وفضلت أن يرتكز عملها في السياسة الاجتماعية الهادئة، فكان هدفها أن يصمد من تبقى من عرب يافا في مدينتهم. فأقامت الحركة العربية النسائية مجدداً في غرب فلسطين، وشرعت في إقامة دورات اللغة والحساب والتاريخ والجغرافيا والتطريز والحياكة ودورات التدبير المنزلي وحقوق المرأة في معهدها الفريد.

تداخل الموت مع بعضه البعض، صور الخريجين مع النساء والأطفال لحظات قبل الاغتيال النازي، واختلطت عمليات الإسعاف والموت وأشلاء شهداء الكلية الحربية في حمص اليوم. فتذكرت أن والدتي التي توفيت بين يدي فارقتنا في مثل يوم ارتكاب مجزرة الكلية الحربية في حمص في 5 تشرين الأول 1984.

لم تغب سورية عموماً وحمص على وجه التحديد من أحاسيسي يوماً، وبالتأكيد منذ مطلع عام 2011 عندما شنت القوة الاستعمارية وأدواتها الإقليمية والمحلية الحرب الإرهابية على سورية، وخلال حديث عائلي قلت إنني أريد أن أعيد لحمص شيئاً من الكثير الذي أعطتنا إياه جدتي؛ والذي كان متجسداً في جدتنا المثال الأعلى، وأنني أريد تكريس منحة جامعية سنوية على اسم جدتنا لطالبة من حمص، لم يلبث أن قمت بذلك إلا أنني وجدت نفسي مكرساً جزءاً من مال كانت تركته جدتي وذلك لدعم أول مؤتمر عالمي عن الحرب على سورية في لندن كان قد كسر الحصار الأكاديمي في الغرب ضد سورية وذلك في نيسان 2017.

شاهدت فيديوهات المجزرة المروعة في الكلية الحربية في حمص تباعاً ومراراً، ومحاولات الإنقاذ، فشرعت أفكر بيوم فارقت والدتي الحياة بين يدي، وبيوم وفاة جدتي الحمصية في يافا عام 1978، ووعدت نفسي أنني سأزور حمص قريباً، وأقدم لهم مساهمة علمية على اسم ابنتهم – جدتي بلاجيا، والتي سميت على اسم «Saint Pelagia» القديسة السورية بلاجيا ومعها ما قد يساهم ببناء حياة بعض أقارب ضحايا المجزرة الدولية ضد سورية والتي تم تنفيذها في حمص التي احتلت دماء الموت فيها مكانة الوالدة.

ستنهض حمص بإصرارها، وستنتصر سورية بعنفوانها، وهذا ما كان وهذا ما سيكون، ولن يطول الزمان.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن