قضايا وآراء

سيبقى هذا الجيش ملحمة الوطن

| عبد المنعم علي عيسى

لم يسبق لجيش، بهذه القدرات والإمكانات، أن خاض حرباً بأمد يطول تلك التي خاضها الجيش السوري ضد جبهات يفوق عديدها عدد ألويته، هذا إن لم يكن يفوق عديد كتائبه، ومع ذلك استطاع، ذلك الجيش، رغم مليارات صرفت في صنوف الدعاية والتجييش لإبراز صورة له مغايرة لتلك التي أنشئ أصلاً لأجلها، أن يظل العضد والسند لبلاد ما انفكت تعاني شتى صنوف التحديات التي يمكن القول إن أخطرها الراهن هو التفكك والتقسيم، الأمر الذي يمكن له فقط أن يحدث فيما لو تفككت النواة العسكرية التي باتت تمثل صلب الدولة والركيزة الأساس التي يستند إليها مجتمعها الذي ما انفك يبدي التفافاً حول مرتكزه انطلاقاً من وعي يغوص في ذات هذا الأخير، ومفاده أن فعل الالتفاف، وحده هو الضمانة الأكيدة لاستعادة البلاد وحدتها وسيادتها وصولاً إلى «قيامتها» من جديد.

من المؤكد أن استهداف حفل تخريج الضباط بالكلية الحربية بحمص يوم الخميس الماضي كان قد حصل في صلب السياقات السابقة أعلاه، فالمكان المستهدف يمثل معقلاً قد يكون هو الأهم من بين معاقل الجيش، وعلى مدى عقود تسعة ما انفك، ذلك المعقل، يلعب دور «مفرخة» تمد المؤسسة العسكرية بمقاتلين استطاعوا من خلال أدائهم رسم، وترسيخ، صورة المقاتل النظامي والعقائدي في عصر تهتكت فيه تلك الصورة حتى طغت عليها صور شتى من نوع المقاتلين الذين يعرضون «بندقية للإيجار» تتفاوت «صدقيتها» تبعاً للمردود الذي يتأتى من «المستأجر».

في الوقائع، وطالما أن أحداً لم يتبنَّ تلك «المجزرة» حتى الآن، يمكن القول إن الفعل يحمل بصمة «جهادية» الأمر الذي لا يخرج عن محملين اثنين، أولاهما أن يكون بتوقيع «الحزب الإسلامي التركستاني» العامل في محيط إدلب، والثاني أن يكون بتوقيع تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي يتمركز بالبادية السورية على امتدادها، وفي هذه الحال إذا ثبت أن المحمل الأول هو الصحيح فهذا يعني أن الدعم الفني والتقني كان تركياً، وإذا ثبت صحة المحمل الثاني، عنى ذلك تورطاً أميركياً أكيداً، والراجح هو أن القيادة السورية تبنت في رؤيتها، وهذا بالتأكيد ناجم عن جملة من المعطيات المتوافرة لديها، أن المحمل الأول هو الأقرب إلى الدقة، الأمر الذي يفسر استهداف الجيش لمواقع انتشار الفصائل المسلحة في الشمال السوري بعد ساعات من وقوع «المجزرة»، ليوسع من عملياته تلك في اليوم التالي، ولا يبدو أن الفعل سيكون عابراً أو مرحلياً، فالثابت، وفق طبيعة الرد التي سرعان ما انضم إليها سلاح الجو الروسي كداعم له، أن دمشق باتت ترى وجوب تدمير البنية التحتية للفصائل الإرهابية بأي ثمن كان، ولربما كانت الرؤية تصل في هذا السياق إلى حدود التفكير بأن أوان «عودة» إدلب قد حان، مع الإشارة إلى أن هذا التفكير كان مطروحاً، عند القيادة السورية، منذ مطلع العام الجاري إلا أنه طوي في سياق الدفع الروسي- الإيراني لمسار التقارب التركي- السوري والذي كانت «الأماني» فيه توحي بأن «العودة» قد تحدث من دون آلام الجراحة، ليتكشف أن ذلك أمر دونه عقبات أبرزها أن حسابات أنقرة لم تصل بعد إلى خواتيمها وأن في «البئر أشياء كثيرة غير الماء».

أفرزت المجزرة، التي كان من المقدر لها أن تشهد فصلاً جديداً في اليوم التالي بالتزامن مع مراسم تشييع الضحايا من دون أن يلقى هذا الأخير، المقدر، النجاح، واقعاً سياسياً جديداً يمكن لحظه عبر التراصف العربي، شبه التام، إلى جانب الحكومة السورية في مواجهتها للإرهاب، وكذا عبر الدعم الذي عبرت عنه دول حليفة وأخرى صديقة لهذه الأخيرة في المواجهة آنفة الذكر، لكن مع بقاء الغرب عند مواقفه المعروفة عنه حتى إن أكثر المواقف تقدماً، عند هذا الأخير، كانت قد عبرت عن «خشيتها من تزايد العنف في سورية» فحسب، بل إن المبعوث الأممي لحل الأزمة السورية غير بيدرسون، قال: إن «هذا الوضع لا يمكن أن يستمر» ولا ندري كيف استقام معه هذا القول بعدما تراجع هو نفسه عن موقفه القاضي بالموافقة على انعقاد الجولة المقبلة من اجتماعات «اللجنة الدستورية» التي كان من المقرر لها أن تنعقد في مسقط قبيل نهاية العام الجاري.

من بين تلك المواقف يبقى الموقف التركي هو الأهم، فعلى الرغم من أن هذا الأخير بقي غامضاً، إلا أنه يبدو محشوراً ما بين تسويقه لعملياته التي ينفذها في الشمال الشرقي من البلاد رداً على تفجير أنقرة 1 تشرين أول الجاري والتي يدرجها في سياق «مكافحة الإرهاب»، وما بين موقف رافض لعمل عسكري يقوم به الجيش السوري رداً على فعل يفوق بأضعاف تفجير أنقرة سابق الذكر بذريعة أن الفعل ستكون له تداعيات على الداخل التركي، وإذا ما كان ذلك «مقبولاً» عند شريكي «أستانا»، روسيا وإيران، في السابق فالمؤكد هو أنه لم يعد كذلك بعد «مجزرة» الكلية الحربية بحمص، بل إن الحدث بات يمثل مبرراً للانقضاض على التفاهمات التي كانت سائدة في شمال البلاد الذي بات يمثل خطراً أكيداً على أمنها واستقرارها من أقصاه إلى أقصاه.

من الصعب الآن الجزم بالمآلات التي ستقود إليها «مجزرة» الكلية الحربية سياسياً وعسكرياً، غير أنها بالتأكيد أرست واقعاً داخلياً ليس بجديد، لكنها أكدته عند بعض من اهتزت لديهم النظرة، وهو يقول إن هذا الجيش يمثل «الصخرة» التي لا بديل عنها لقيام سورية، موحدة وآمنة، قادرة على النهوض من جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن