ثقافة وفن

في القديم كانت المنهجيات في نقل العلوم والمصطلحات في غاية الرصانة … التعريب بين جهود العلماء المنتمين إلى لغتهم وفقدان المعايير

| إسماعيل مروة

هل يعدّ التعريب شأناً خاصاً بأهل اللغة؟

هل يتوجه التعريب إلى الجماهير؟

هل يأخذ التعريب مفهوماً واحداً؟

عندما يعود واحدنا إلى الكتب والدراسات المعنية بالتعريب، وحين يستمع إلى مصطلح التعريب، فإنه يجد تناقضاً في الفهم، فمنهم من يأخذه إلى جانب، ومنهم من يأخذه إلى جانب آخر:

– حركة التعريب في العصر العباسي ونقل العلوم حركة تعريب نشطة.

– مقاومة حركة التتريك في التدريس والعودة إلى اللغة العربية حركة تعريب.

– حركة نقل الآداب والعلوم في مطلع عصر النهضة حركة تعريب.

– متابعة العلوم المستحدثة وإنشاء المقابلات العربية حركة تعريب.

– تدريس العلوم باللغة العربية هي حركة تعريب.

الحدود الفاصلة

مع بدايات عصر النهضة صار الأدباء والمفكرون ينقلون الكتب عن الفرنسية والإنكليزية في حركة دائبة، وأطلق عليها اسم التعريب، ورأينا صفة (تعريب) سابقة لعمل كبار الكتاب في عصر النهضة، ومنها ما فعله الطهطاوي وغيره من الأدباء، وهذا أوجد نوعاً من اللبس بين مفهومي الترجمة والتعريب، ويميل كثيرون إلى مصطلح التعريب، بمفهومه الواسع (نقله إلى العربية) وهذا ما كان الراحل منير بعلبكي يحرص عليه في تسمية جهوده حين أطلق على عمله من نقل الروايات والروائع (التعريب) وبعضهم يرى أن المنفلوطي لا يعرف لغة أجنبية، ونقل (تحت ظلال الزيزفون) تحت ذريعة (التعريب) أو النقل إلى العربية، فهل هناك من حد محدد لمفهوم التعريب؟

في كتب وندوات كثيرة، وبعضها كان الحضور مباشراً يظهر هذا الفهم الواسع لمصطلح التعريب الذي يستوعب:

– نقل الآداب والنصوص من اللغات الأخرى.

– نقل العلوم المستحدثة.

– التدريس للعلوم بالعربية.

– الاقتصار على المصطلحات والمفردات المستحدثة.

أي من هذه المفهومات هو الصحيح؟ رأيها الذي يجب أن نوليه العناية؟ وما حدود التعريب؟ ومن يحمل مهمة التعريب؟ وهل يكفي أن تصدر هيئة ما قراراً يخص تعريب أمر ما ليلزم الجميع؟

التعريب حركة علمية متكاملة

إن عدنا إلى مراحل التعريب التي تحمل قيمة كبرى في حياتنا، أو إلى المفاصل التاريخية في التعريب، فإننا سنجد فهماً عميقاً وشاملاً للتعريب يجعله قادراً على أداء مهامه والغاية التي يسعى إليها، وفي مراحل نجاح التعريب المذكورة في تاريخنا العربي لا وجود لفصل بين الجهود الفردية المميزة، والجهود التي تقوم بها المؤسسات، بل إن الأفراد والمؤسسات اتفقوا دون إبرام اتفاقات على بذل الجهود المشتركة للتعريب، لأسباب لغوية وثقافية وعلمية وسياسية ووجودية في الوقت نفسه، ولا يجوز الفصل بين سبب وآخر، لأن الفصل يؤدي بصورة مباشرة إلى الاستهانة بالعملية التعريبية برمّتها.. والتعريب وفق هذا الفهم الشامل ليس عملية نقل يقوم بها خبراء باللغات الأجنبية، وهم لا يملكون حساً لغوياً عربياً، أو خبرة لغوية عميقة، وليس كذلك عملية رفض لكل عملية نقل، والسكنى في المعجمات القديمة.. وما يعيب عملية التعريب اليوم هو هذا الخلط، بل الخندقة لكل طرف في مواجهة الآخر.. وحين نصل إلى فهم عميق يتعلق بالوجود والهوية والثقافة والسياسة واللغة يمكن أن تسير عملية التعريب الوجهة الصحيحة. والدليل الأكثر أهمية يتمثل في أن حركة التعريب تنشط وقت الازدهار السياسي!

أليس في ذلك دلالة على الارتباط السياسي والهوية؟ وها هو د. محمد المنجي الصيادي وهو واحد من أكثر الباحثين الذين وضعوا جهودهم لدراسة التعريب ورحلته، وإن لم ينخرط في عمليات وضع المصطلح يقول: «الملاحظ لأول وهلة أن حركة التعريب التي تجمدت في عصور الانحطاط، بسبب توقف الاجتهاد اللغوي، وانحسار العربية وانفلاتها في قوالب محنطة، عادت من جديد حالما بدأت العربية تتجدد في القرن التاسع عشر، ومنذ أن فشلت عملية التتريك التي استهدفت أول ما استهدفت القضاء على التعامل بالعربية سياسياً داخل الدولة العثمانية».

هذا النقل على اختصاره يعطينا أكثر من دلالة:

– المراحل التي تتسم بالجمود والضعف تسبغ هذا الضعف في كل مجال، ومن ذلك اللغة.

– الاجتهاد اللغوي، وليس النقل اللغوي، هو أساس أي نشاط تعريبي.

– التحدي السياسي للهوية يمكن أن يكون سبباً أساسياً لحركة تعريبية ذات قيمة لأنه يستهدف الهوية.

بين الأفراد والمؤسسات

يتناول الدكتور صبحي الصالح صاحب (فقه اللغة) أكثر كتب فقه اللغة ذيوعاً وانتشاراً استعداد العربية لتعريب الألفاظ والدلالات، فيقول في بحث قدّم لندوة التعريب في مركز دراسات الوحدة العربية «بعض اللغات أقدر من بعض على اجتراح المبادلات اللفظية المكافئة للمدلول المطلوب، حيث يثبت بالمقارنة الألسنية أنها كالعربية غنية بالأبنية والصيغ غناها بالاشتقاق والتوليد.

حسبنا أن نلقي الأضواء على ما تفتحت لغتنا لاحتوائه واستيعابه من ألفاظ إغريقية استخدمها فلاسفة اليونان لتفسير الكون والحياة والإنسان.. وذلك ما نستنتجه باطمئنان من وضعهم كلمة «جوهر» للدلالة على «أوسيا» ولفظ «طبيعة» إزاء «نيس» و«عقل» مقابل «نوس».

ويتابع الدكتور الصالح عمل المؤسسات «ومن يتتبع مراحل التعريب انطلاقاً من المؤسسات الرسمية، لابد من الإشادة بالقائمين على مجمع دمشق، وفي طليعتهم رئيسه الأمير مصطفى الشهابي الذي كان أول من وضع القضية في إطارها الواسع، إذ أرَّخ لكل المحاولات العربية، الفردية والرسمية من 1919 إلى 1952 ملاحظاً أن الشعور بضرورة توحيد المصطلحات العلمية أصبح في البلاد العربية شعوراً عاماً».

وبهذه الرؤية الصائبة والعميقة يبين الدكتور الصالح مجالات التعريب والاشتغال عليه، فليس التعريب عمل حاطب ليل يأخذ من هنا وهناك، ولا يدري القديم من الدخيل ليصنع كتاباً مكتظاً بالأغلاط والمغالطات من دون اعتماد مبدأ المبادلات اللفظية المكافئة للمدلول المطلوب!

مفهوم التعريب وخطورته

قد يتعرض التعريب لبعض السخرية حتى من المتخصصين، أو من الذين نتوهم حرصهم على العربية وهم ليسوا كذلك، بل هم ألدّ الخصام، وإن حملوا مسوح الرهبان للغة!

وعندما نتابع ما خلص إليه الخبراء نستطيع أن نحدد مفهوم التعريب، فهو ليس كما يزعم بعضهم علامة ردّة ماضوية، وإنما هي التراث والقيم والمفاهيم والفكر، لذلك نجح الأوائل من د. الخياط ود. الكواكبي، ود. سبح والأمير الشهابي، في حين أخفق الآخرون، وحسبنا أن ما أنجزه الأمير الشهابي لا يزال قيمة ومتفرداً، ويتهافت الباحثون في الزراعة والبيطرة على الحصول عليه، وهذه الفكرة هي التي يجب أن ندركها كما يشير الباحث.

الحبيب الجنحاني «إن اعتبار اللغة مجرد أداة للقول أو إكساء للفكرة أو وسيلة للتعبير فكرة قديمة ومتخلفة ومرفوضة، فهي أداة تلقي المعرفة، وأداة تفكيره ورمزه وتجسيده، إنها الفكر نفسه في حال العمل، فليس هناك إذاً فكر مجرد بغير رموز لغوية، وهكذا بقدر ما تكون اللغة دقيقة وحية ومبرأة من الفوضى يكون الفكر دقيقاً وحياً ومبرأ من الفوضى، فاللغة مثل ذاكرة الأم تختزن فيها تراثها وقيمها ومفاهيمها، وهي في الوقت نفسه أداة أساسية في حركة المجتمع ونموه، وفي انطلاقه من حاضره نحو آفاقه المستقبلية، فهي الأداة الأولى لقيام المجتمع المتناسق المتماسك، وهي اختزان للفكر، وهي التعبير عنه وأداة التبليغ له، إنها إذاً أداة التواصل بين الماضي والحاضر، وهي تمثل الذاكرة الحضارية.

القضية ليست تمسكاً ماضوياً، وإنما تبرئة للغة واختزان للفكر وأداة للتواصل، وهذه الأشياء بمجملها على الباحثين العمل عليها بدأب من دون توقف، ولأن الأفراد والمؤسسات اليوم هي مؤسسات شكلية، فقد تحول الهم من تبرئة اللغة من الفوضى، إلى زراعة الفوضى، وإلا بماذا نفسر الألفاظ التي يقوم الخبراء بعد جهد طويل باعتمادها بلفظها الأجنبي؟ وماذا نقول في الصمت المتواطئ مع الفوضى؟!

القومية والهوية

لننظر إلى ما يقوله الباحث في قضايا المصطلح مصطفى الفيلالي عن أهمية التعريب:

«قضية التعريب قضية قومية تهم جميع شعوب الأمة العربية في مختلف أوطانها، ويرتبط هذا الاهتمام بحاضر الأمة العربية ومستقبلها، وعلاقة التعريب بالأوضاع الحاضرة الواضحة فيما للعربية من شأن داخلي، وما تحتله من مرتبة بالقياس إلى اللغات المستعملة الأخرى».

فالقضية ليست لغوية أو فردية، وإنما هي قومية، هي حاضر ومستقبل، ومقارعة بين اللغات، وارتباط التعريب بالحاضر والمستقبل ارتباط وثيق.

مما سبق نجد أن حركة التعريب بمفهومها العلمي للمصطلحات العلمية يغرق في حالة من السبات المرضي، ويغلب على الساحة التقميش واجترار مؤلفات سابقة، وتفريغ مؤلفات قديمة، وإضافة ركام إلى ركام، ولا يوجد أي نوع من الاستمرارية والتواصل مع جهود المعربين الأوائل سواء في الجامعات أم المؤسسات المعنية!

ما يجري اليوم من تعريب

إن ما دفعني للحديث عن التعريب ومصطلحه وتجاربه العربية في هذا الوقت هو ما تمّ من مجمع اللغة العربية في القاهرة من إقرار «ترويسة- ترويقة- تريند» أقول إقرار وليس بالتعريب، فالتعريب كما رأينا أمر آخر، وهنا لم يتعدّ رأي المجمعين إقرار أمر واقع لا يعني أحداً إن أقرّه أو لم يفعل، وهو ليس بالمصطلح، ولا يمت إلى التعريب بصلة! وتلا ذلك صمت لغوي ومجمعي على المستوى العربي وصل حد الإقرار بما تم اتخاذه، وإن لم يكن بصورة مباشرة، وصار بإمكان المجمعيين أن يستخدموا «تريند» قبل العامة..! وما أثير حول الموضوع من اعتراض أو إنكار كان من الإعلام الذي ظهر أكثر حرصاً وخبرة، ومن شخصيات مثقفة واعية.. «الجوهر» و«أوسيا» مَن مِنَ الكتاب يستخدم أوسيا؟! مَن مِن الناس يعرفها، ويعرف أنها عُرّبت بلفظ عربي أصيل هو «الجوهر»؟

المشكلة الحقيقية في أن من يتصدى للتعريب لا علاقة له بالعربية من قريب أو بعيد، لكن والحق يقال يرطن بلغات أخرى! مع أنه لا يفرّق بين التعريب والعجمة والترجمة!!

لغتنا هويتنا القومية التي يجب أن نحافظ عليها لنحافظ على وجودنا وكينونتنا، وإلا ضاع كل شيء مع ضياع الهوية بوجود كوكبة من العلماء الأجلّاء الذين يعملون سدنة للعربية!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن