ثقافة وفن

فلسطين ومعركة الوجود

| إسماعيل مروة

لم تكن القضية الفلسطينية في يوم من الأيام شبيهة لأي حالة في مكان آخر، فهي ليست مشكلة مع الظلم، ويتطلب الأمر مكافحة الظلم، وليست مسألة فساد والمطلوب مكافحة هذا الفساد، ولا مشكلة اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك، وإنما هي هذه الأمور مجتمعة كما يشير كتاب «المجتمع الفلسطيني» الذي أعدّه باحثون نرويجيون، وشارك فيه عدد من الباحثين والسياسيين الفلسطينيين، ونشر قبل اتفاقات أوسلو، ونقل إلى العربية في حينه، هذه الأمور مجتمعة هي التي دفعت باحثين عالميين وفلسطينيين إلى إجراء مسح كامل يتعلق بما يتناوله الفلسطيني من طعام وشراب وفاكهة وغير ذلك، وما يلبسه وما ينقصه، وعدد الزوجات، وعدد الأطفال، ونسبة الإخصاب، إضافة إلى العلاقات البينية بين شرائح المجتمع الفلسطيني، دينياً وسياسياً، وبناء على إحصاءات دقيقة تم وضع المجتمع الفلسطيني ضمن إطار يتعلق بحاجاته، وتم تفصيل اتفاقات أوسلو على مقاس هذه الدراسة، وغيرها من الدراسات الميدانية التي قامت بها منظمات دولية وأخرى مدنية.. عرفوا تفاصيل المجتمع الفلسطيني، وعرفوا احتياجاته، ودرسوا آماله وآلامه، وفصّلوا لجهل منهم اتفاقات على مقاس هذه الاحتياجات، ووقعوها، ولم ينفذوها كما هي العادة، وبعضهم يردّ ما جرى بعد ذلك من أحداث يتعلق بقيام الكيان الصهيوني بتجاهل الاتفاقات وعدم تطبيقها، بل إن بعض الساسة يرون بأنه لو طبقت سلطات الاحتلال الاتفاقيات لصارت الأرض هادئة، والأحلام وردية، وهذا أمر غير صحيح نهائياً، فالمجتمع الفلسطيني شأنه شأن البلدان العربية الأخرى يعاني الظلم والفساد والفقر في طبقات كثيرة منه، لكنه في الوقت نفسه لا يلتفت إلى هذا الأمر بهذه الطريقة، فهذه أمور تعالج بين الحاكم والمحكوم، وبين الفئات الاجتماعية، ويمكن الوصول إلى نقاط اتفاق، ويمكن أن يتم التمرد عليها ذات لحظة.. لكن الأمر وخلال قرابة ثمانية عقود يختلف اختلافاً كلياً في فلسطين المحتلة، فالاحتلال كان استيطانياً لكل بقعة في فلسطين، وهذا يعني أن الفلسطيني هجّر وشرّد من أرضه، وليست له بقعة في هذا الوطن ينتقل إليها، ما أشعره بالحاجة إلى العلم، لذلك نجد الدراسات العالمية وهذا جانب مضيء يجب أن يسلط الضوء عليه تؤكد أن أعلى نسبة من الثقافة واللغات والعلم والشهادات في العالم أجمع هي الموجودة لدى الشعب الفلسطيني الذي وجد في العلم بيته وملاذه وخلاصه..

وفي كل مكان حلّ الفلسطيني بقي فلسطينياً، في أميركا وأوروبا وآسيا وفي البلدان العربية، فهو فلسطيني- سوري أو فلسطيني لبناني، أو أميركي من أصول فلسطينية وهكذا.. القضية إذاً ليست كما صورت بحاجات المجتمع الفلسطيني أو الإنسان الفلسطيني، وإنما الأمر أبعد من ذلك بكثير.

الذي لم يلتفت إليه الباحثون أن الأمر في فلسطين هو هذه الأمور كلها، إضافة لأكثر نقطة في الأهمية هي أزمة «الوجود» فالاحتلال الاستيطاني الذي جربته الدول العربية كلها في مرحلة سابقة هو أزمة هوية، ولكن فلسطين تعرضت لما هو أكثر خطورة، فاستيطان ووطن بديل للصهاينة بدل الوجود الفلسطيني، ذهبت الاحتلالات السابقة وبقي الشعب مكانه، ولكن تهجير وتشريد وإبادة الفلسطيني في ناحية، أو ترغيبه ومنحه الميزات والجنسيات في مكان آخر لا يمكن أن يعوضه عن وجوده وكينونته، وهذا ما يعزز حتمية عودة الفلسطينيين إلى أرضهم، على الرغم من التندر والاستهجان، فمهما طال الزمن فستدور دورة التاريخ ويعود الفلسطينيون إلى أرضهم على الرغم من القوة والصلف والاستكبار من العدو، والضعف والتفرق من الجانب المعني بالقضية!.

قد يساوم بعضهم على وطن إن كان موجوداً لكنه لا يساوم على وجوده حين يفقد كل شيء، ولا تعنيه الحياة بلا وجود، فلا تستغرب عندما يستقبل الشهداء بالزغاريد، فلو عدنا إلى الأغنية الفلسطينية فلن نجدها إلا فرحة مستبشرة، وأغنيات الوطن قمة في التفاؤل، حتى أسماء الأغنيات والقصائد كلها تتعلق بالوجود وبالأمل لا بشيء آخر، مواكب الشهداء صورها محمود درويش بأعراس الجليل، والشهيد صوره طوقان مبتسماً، وعند عبد الرحيم محمود حمل روحه على راحته.. إن ما يجري اليوم، وما سيتبعه مستقبلاً هو في إطار معركة البحث عن الوجود لتبدأ الخيول الفلسطينية رقصها في ساحة الأقصى وعند كنيسة القيامة.. لابد للوجود أن ينتصر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن