وأنا أرى أبناء قومي العرب الفلسطينيين يموتون على مرأى مني، وأرى أطفالهم ينزفون وبيوتهم تهدم فوق رؤوسهم في غزة. أشعر أن الكلمات تافهة وعاجزة كفأر من قش محكوم بالرماد، رغم ذلك لابد لي من أن أكتب وفاء بالتزامي المهني والأخلاقي، فمهمة الكاتب الأولى والأخيرة هي أن يكتب.
عندما رآني نظر إليَّ كصياد عثر، بعد عناء، على الطريدة التي يبحث عنها. قال لي: هل اطلعت على نبوءة الصحفية ذات الأصل العربي هيلين توماس، عميدة مراسلي البيت الأبيض، التي وصفها تلاميذها في حفل تأبينها بأنها «أجرأ صحفية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية»؟ قلت: إذا كنت تقصد كلامها عن زوال الدول العربية بالكامل، فقد قرأته. قال: هل تعتقد أن نبوءتها هذه ستتحقق قريباً؟ قلت: اسمح لي أن أختلف معك في فهم كلمات هيلين توماس، فهي كاتبة وليست عَرَّافة، وأنا لا أرى في عبارتها نبوءة كما تقول أنت، بل أراها كقول بليغ، القصد منه تنبيه وتحذير الحكام العرب بأن استمرارهم في التناحر وممارسة السياسات العقيمة سيوصل دولهم للانقراض، وهذا قول بليغ وصائب، غير أنك تعتبر كلامها نبوءة وأنت بذلك تخرجه من مجال البلاغة وتوقعه في المبالغة، وشتان بين البلاغة والمبالغة.
قال: طوال عمرك المديد في الصحافة وأنت تضع اسم (إسرائيل) في مقالاتك بين قوسين، وتقول إن الدولة الصهيونية دولة وظيفية، تستمد أهميتها من الوظيفة الموكلة لها في حرب النفط المستمرة من بدايات القرن الماضي… قلت: لست وحدي من أصف الكيان الصهيوني بأنه دولة وظيفية، حتى العدو بات يعترف بهذه الحقيقة. فقد وصف أحد الصحفيين الإسرائيليين الدولة الصهيونية بأنها «كلب حراسة، رأسه في واشنطن وذيله في القدس». قال: قرأت كلاماً لك تتنبأ فيه بتفكك (إسرائيل) بمجرد زوال وظيفتها، هل ما تزال تصدق هذا الكلام، وخاصة أننا نحن من بدأنا نتفكك؟ قلت: لست أريد أن أرش على الموت سكراً، فوضع دولنا نحن العرب يدعو للقلق، لكن وضع عدونا لا يدعو للطمأنينة! فالصهاينة يقلقهم هاجس نهاية الدولة ولا يخفي زعماؤهم هذا الأمر، وهم يعلمون أن حقائق التاريخ ليست في مصلحتهم، فكل الكيانات الاستيطانية المشابهة للكيان الصهيوني كان مصيرها الزوال، كدولة الفرنجة في مملكة بيت المقدس، ودولة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، ودولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. قال: هل أفهم من كلامك أنك ما تزال واثقاً بالمستقبل رغم كل ما يجري؟ قلت: لن أجيبك أنا على هذا السؤال، بل سأحيلك إلى قول لباحث صهيوني هو مؤسس مركز الدراسات الفلسطينية البروفسور أرنون سوفير إذ يقول: «السيادة على أرض (إسرائيل) لن تُحسَم بالبندقية أو القنبلة اليدوية بل ستُحسَم من خلال ساحتين: غرفة النوم والجامعات، وسيتفوق الفلسطينيون علينا في هاتين الساحتين خلال فترة غير طويلة».
والحق أن الفلسطينيين هم الأكثر تناسلاً، كما لديهم أكبر عدد من شهادات الدكتوراه في العالم بالنسبة لعدد السكان. لست أدري ما إذا كانت هذه المعلومة هي التي جعلت سوفير يتنبأ بـ«اختفاء (إسرائيل) بعد خمسة عشر عاماً»، لكنني أتمنى وآمل من كل قلبي أن يتحقق كلامه، لا أن يكون مجرد بلاغة أو مبالغة!