إن العدوان لا يأتي إلا على الشجعان! وحدهم هؤلاء الذين ينالهم العدوان ويستهدفهم، ولو لم يكونوا شجعاناً ما تم استهدافهم! عجيب هذا الرأي، لأنه يظهر من أكثر من زاوية، أولى الزوايا تقول: كن ذليلاً حتى لا يعتدي عليك أحد! فهل يجوز أن نقرن العدوان بالشجاعة بالذل؟ وثانية الزوايا: هل كان هؤلاء الذين يقع عليهم العدوان يعيشون في ألف ليلة وليلة ويحلمون؟ هل أنكروا نعم الله عليهم؟ هل كانوا من الشجاعة بحيث خرجوا من حال إلى حال رديء؟ هل خرجوا من الرحمة للعدوان؟ هل خرجوا من النعيم وألقوا أنفسهم في ظلمات العدوان؟ وثالثة هذه الزوايا تقول: ابق مكانك يا هذا، واقنع بما أعطي لك، ولو كانت اللقمة التي أبقيت لك، من الممكن أن تسحب كل يوم عشرات المرات من فمك! اقنع بما لديك من فتات! وهذا الأمر لا يقتصر على السياسة والحروب، بل على الحياة برمتها، وهذا فهم خاطئ لقول الإمام علي كرم الله وجهه: «لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع»، والواقع الذي نقبله مقابل الغيب هو الواقع الذي نصنعه ونضع أطره.
ما بين التسليم بالأمر الواقع، والاستسلام لأمر مفروض، وليس بواقع هو مسافات من الغربة والاغتراب والتغريب وسلب الحقائق… وما بينهما تأتي فلسفة «رش على الموت سكر» بعبارات جوفاء يقولها المراقبون: العدوان لا يأتي إلا على الشجعان/ لا ترمى بالحجارة سوى الأشجار المثمرة/ لو لم تكن مهماً ما استهدفوك/، لو كنت تافهاً ماعاداك الناس/ وغير ذلك من عبارات لا تحمل أي قيمة، ويعرف قائلها أنها جوفاء ويعرف سامعها عقمها، وربما استشف فيها التشفي من الآخر بطريقة أو بأخرى، وكل ذلك يلبس لبوس العبارات الإنشائية الفضفاضة التي لا تسمن ولا تغني من جوع!
فعندما يتكالب الناس على شخص في مجتمع ما، ويسلبونه محاسنه يأتي من يقول: لأنك مهم، وحين يأخذون حقوقه يأتي من يقول: لأنك قيمة ويخافون منك، وفي النهاية يدفع هذا كل الضرائب ويمشي، وهو يتألم لأنه ليس مضطراً لدفع أي ضريبة، وليس مقتنعاً بأنه مهم! وحين يخلد إلى نفسه ويخلو إلى ذاته يكتشف أنه لا شيء مما يقولون..
وحين تتكالب الدول والبلدان على بلد يأتي من يقول: بسبب موقعه، وآخر بسبب روحانيته، وثالث بسبب ثرواته، ورابع وخامس.. ولكن لم يخطر ببال أحد أن يقول: وهل من بلد لا يملك موقعاً أو روحانية أو ثروات؟ ونحن نصدق، ونتخيل أن بلداننا تعد هدفاً للخصوم بسبب عدد القباب التي تضم الأولياء والصالحين، المعلومين والمجهولين!
ونقتنع بأننا خير أمة للناس بالتعبير المطلق!
ونقتنع بأن مفاتيح العالم بين أيدينا!
والأكثر أهمية يداخلنا الوهم بأن الآخر يرهبنا!
يرهب فكرنا وما نحمله، ويخشى أن ننهض من رقدتنا!
لو كانت ستمطر كنا رأينا المطر.. أربعة عشر قرناً..ولا نزال نبحث عن قميص عثمان والخلافة، ونحمله وندور في البلدان، أربعة عشر قرناً والثارات ندور بها على بيوت بعضنا لنحاسب بعضنا على شيء لم نفعله! أربعة عشر قرناً ولم نستوعب أن السياسة هي التي فرقتهم بعد أن جمعتهم وأن الحياة سارت باتجاه آخر، لكننا نريد أن نعيد العقارب إلى الوراء!
مم يخاف أعداؤنا؟
من أدعية ومنامات؟!
من ثارت لم تستطع القرون أن تمحوها؟!
العدوان لا يأتي إلا على الشجعان!
لا ترمى بالحجارة سوى الأشجار المثمرة!
كلام فيه الكثير من السكر فوق جراحنا، ولكن علينا ألا نتوهم أن الحقيقة فينا ولنا.
لا أحد يخاف منا
لا أحد يحسب حسابنا
فما زال رأس النعامة مطموراً في الرمال، وزرقاء اليمامة ما من أحد يسمع نداءها.
في كل فاصلة من تاريخنا لو وقفنا مرة للمراجعة كنا حقاً خير أمة أخرجت للناس..
ولكننا بما أننا نؤمن بأننا شجعان لذلك يأتي العدوان، سنبقى نرقب ما على الشاشات ومحطات الأخبار، وسنغفر للخونة ونقول: لقد تابوا وتراجعوا ونسمعهم من جديد وربما هتفنا لهم! وسيخرج علينا أناس غابوا عن المشهد كغيبة الإمام المنتظر، وعادوا وجلسنا نتابعهم كأن شيئاً لم يكن!
حين ندرك ضعفنا وقوتنا
وحين نخرج من عباءة الماضي
وحين نتسلح بالثوابت للدخول في المستقبل.
عندها سنسخر عندما نسمع «العدوان والشجعان»، «الحجر والشجر المثمر» لأنه ما من أحد سيجرؤ على العدوان أو على الرمي بالحجر.
بعد العدوان حبذا أن نقف وحدنا.. وبعد الحجر حبذا أن نجمع ثمار شجرنا وحدنا.. لتبدأ مرحلة جديدة.