بين سقوط الغرب الأخلاقي وإسقاط الفكر المقاوم.. المعركة الأخيرة حذارِ من الخذلان!
| فراس عزيز ديب
في الحروب كما في الأزمات فإن جرسَ الحقيقة عندما يُقرع عليكَ أن تعيره الاهتمام، والخروج من حالة المبالغة في تصور الإنجازات هو ليسَ تقزيماً لها بقدرِ ما هو نقطة انطلاق متجددة للسيرِ نحو إنجازات أخرى، تحديداً عندما تواجه عدواً قادراً على فعلِ أي شيء بتغطيةٍ دولية وبواجهةٍ غيرَ أخلاقية دونما خجل، هذه المقدمة تبدو ضرورية لمحاولة رؤية ما يجري على الأراضي الفلسطينية المحتلة من جانبٍ آخر، فكيف ذلك؟
«سنعيدُ رسمَ خريطة الشرقِ الأوسط لخمسين عاماً قادمة»، هذا ما قالهُ رئيس حكومة كيان العدو المجرم بنيامين نتنياهو بعدَ ساعاتٍ من انطلاق عمليةِ «طوفان الأقصى» التي أذلَّت فيها كتائب المقاومة الفلسطينية جبروت الكيان الهش، لكن هذا التصريح ليسَ الوحيد الذي يستحق التوقف عندهُ بل إن تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال زيارتهِ للأراضي المحتلة لتقديمِ الدعم الكامل لإسرائيل هي الأخرى تستحقُ الوقوف عندها، تحديداً عندما قال: «أنا لستُ هنا لكوني وزير خارجيةٍ فحسب بل لكوني يهودياً أيضاً»، تصريحان يقدمان لنا تصوراً واضحاً حول مآلاتِ الأحداث القادمة ويجعلانِ كل من يرى الأمور بواقعية يقرع جرسَ إنذار كبير بنغمةٍ يلفها الحزن مفادها: هي المعركة الأخيرة، حذارِ من الخذلان!
المسار الأول يندرج تحت فرضيةِ إطلاق يد الكيان الصهيوني ليفعل ما يشاء، بمعنى آخر فإن نتنياهو لن يفوِّت فرصة استغلال الأحداث لفرضِ خرائطَ جديدة حتى لو بدا للبعض استحالةَ الأمر، لكننا في الطريق لنرى أن ما نراهُ مستحيلاً هو ليسَ كذلك، عند عالمٍ أحمق يقوده الكيان الصهيوني، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين كانَ يقول عن غزة: «أتمنى أن أستيقظَ يوماً وقد ابتلعها البحر»، اليوم يجري تجديد هذهِ الفكرة، ماذا لو استبدلنا البحر بالصحراء لتبتلعَ آخرَ أملٍ بدولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة؟
من يتابع مسارَ الأحداث منذ بدءِ الرد الصهيوني على عمليةِ «طوفان الأقصى» يدرك بأن كل ما يجري يخدم هذا التوجه وقد ساعدهُ على ذلك الموقف العربي الرسمي الذي كما العادة خرجَ بالحدِّ الأدنى من الدعم للمقاومة، حتى الموقف الشعبي، ولكي نكون منصفين، فهو كذلك، الأمر انفعالي غير منضبط، فمثلاً هناك في بعض الدول من يخرج ليطالب بفتح الحدود للقتال مع الفلسطينيين، فيما السفارة الإسرائيلية تبعد عن مكان التظاهر مئات الأمتار، ولا يجرؤ أحد على إلقاء حجرٍ عليها لدرجةٍ قد تشعر معها وكأن هذه التظاهرات تتعمد بعض الأنظمة إخراجها لتنفيس الاحتقان لا أكثر! أما العامل الثاني فهو قدرة مصر على الصمود في وجه هذا المشروع بين التهديد والترغيب، فالوضع الاقتصادي المصري في الحضيض، أما الوضع السياسي فهو أسير اتفاقيات كامب ديفيد، والأهم من ذلك تبدو مصر اليوم أمام خيارين أحلاهما مر، إما إغلاق معبر رفح لمنع نكبة جديدة بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، أو فتح المعبر والقبول بالأمر الواقع، لكن أكثر ما يُخشى منه في هذه الفترة أن يتم التوصل لحلٍّ وسط أي قيام الجانب المصري بفتح المعبر بدواعٍ إنسانية تسمح بتهجير الفلسطينيين من غزة، كل هذا يحدث عندما لا يكون هناك وضوح في المواقف، كل هذا يحدث عندما يقوم بعض الإعلام بتحريف التاريخ مثلاً وينام في العسل كما يجري من استثناءٍ لبطولات الجيش العربي السوري في معاركِ حرب تشرين التحريرية، كل هذا يجري عندما لا يكون هناك توازن في البيانات الرسمية لدرجة تقترب من الموازنة بين الضحية والجلاد، كل هذا يحدث عندما تكبل البعض اتفاقيات السلام من دون أن يدرك أن «يهودية الدولة» كانت أساساً مبنية على وجود وطن بديل للفلسطينيين ماذا لو أصبحوا اليوم وطنين؟!
بالسياق ذاته فإن تطرفَ نتنياهو في تحقيقِ هذا المشروع بدا مستنداً إلى حدٍّ بعيد لتطرفِ أصدقاء إسرائيل الذين رفعوا رايةَ الحرب ضد المقاومة، مسؤول في الاتحاد الأوروبي عبرَ عن رفضهِ لدعوات الجيش الإسرائيلي للفلسطينيين مغادرة غزة باتجاهِ الجنوب، من يقرأ موقف المسؤول الأوروبي قد يجهش بالبكاء من فيض الإنسانية لكن من يدقِّق في العبارات المستخدمة سيكتشف بأن رفضه لم يستند لفكرةِ أن هذا الطلب هو أشبه بجريمةِ حرب أو إبادة جماعية بل لأن هذا الأمر يستحيل تحقيقه بسببِ صعوبة تأمين الخدمات والمساعدات لأكثر من مليون لاجئ دفعة واحدة!
بعض المواقف الرسمية الأوروبية تجاوزت المواقف الصهيونية بكثير، وزير العدل الفرنسي حذرَ من أن القانون الفرنسي يحظر التعاطف أو التعاطي مع المجموعات الإرهابية التي تتصرف كداعش، هذا يعني أنك قد تكون معرضاً للسجن لمجردِ أن تقول إن حماس مقاومة أو ما يجري هو مجازر بحق الفلسطينيين عليكَ أن تتابع بصمت، لكن الوزير تجاهلَ فكرة أن السياسة الفرنسية تعاطت مع من هم أسوأ من داعش، ماذا عن جبهة النصرة الإرهابية التي يصفها الإعلام الرسمي الفرنسي بالمعارضة المسلحة بل ويستقي منها شهادات حية عما يسمونها بـ«جرائم الجيش السوري»؟ برلمانية فرنسية تعرضت للانتقاد لمجرد أنها حاولت التمييز بين حماس الجناح العسكري وحماس الجناح السياسي، طالبوها باعتبار كل ما يمت لحماس هو إرهاب وإلا فإنها تتعاطى بمعايير مزدوجة!
هذا التحول الأوروبي يبدو خطيراً بمعزلٍ إن كان للمواقف الأوروبية قيمة من عدمها، لكنه مؤشر خطير على فكرة السقوط الأخلاقي الذي يتجاهل تماماً الشهداء في غزة، بل ورفضَ حتى أن يتحدث عن استشهاد صحفي في جنوب لبنان استشهد بغارةٍ على سيارةٍ مدنية تحمل الصحفيين، هذه الفوضى في التعاطي، من الواضح أنها لم تأتِ عن عبث، بل وتبدو وكأنها قرارات متخذة منذ فترة كانت بانتظار التطبيق لا أكثر، بما فيها مشاريع الوطن البديل، مع التذكير هنا بأن من ينتقد مواقف بعض الدول العربية التي كما يصفها «تخاف الغضب الأميركي» يصمت عندما يرى دولاً كبرى كفرنسا وألمانيا لا تجرؤ أن تغردَ بمترٍ واحد خارج السرب الأميركي!
المسار الثاني يتمثل في الدورِ الذي تلعبهُ الولايات المتحدة فيما يجري، يرى البعض بأن الإعلان الرسمي عن وصول حاملة الطائرات الأميركية الأحدث «جيرارد فورد» قبالةَ السواحل الغربية للبحر المتوسط بعد ساعاتٍ من الهجوم، لم يكن الهدف منهُ إخافةَ حماس بقدرِ ما كانَ الهدف منهُ إخافةَ الحلفاء، بمعنى أن يُتركَ للأميركيين تثبيت الوضع خارج فلسطين المحتلة، فيما تتفرغ الآلة العسكرية الصهيونية للداخل، تبدو هذه الفرضية دقيقة جداً لكن من الواضحِ أيضاً أن استمراريتها من عدمهِ مرهونٌ بالتطورات الميدانية تحديداً أن الأميركيين أنفسهم تفاجؤوا من السقوط السريع للمستوطنات وعدمَ علمهم بأي معلوماتٍ عن التحضير لهذا الهجوم، فيما أصروا على فكرةِ قيام مصر بتبليغ الكيان وتحذيره قبل أيام من وقوعه! لكن أسوأ ما قد يحدث هو التعاطي مع المصطلحات بأسلوبٍ مطاط، هناك من يتحدث عن التدحرج نحو المواجهة الشاملة في حال دخلت الولايات المتحدة الحرب؟ هل حقاً أن الولايات المتحدة لم تدخل بعد هذهِ الحرب؟
هناك من يتحدث عن التدحرج نحو الحرب الإقليمية في حال قيام الكيان الصهيوني باجتياحٍ بري لقطاع غزة، وهل يحتاج الكيان الصهيوني حقاً إلى اجتياحٍ بري بعدَ أن أطلقت يده ليرتكب ما يشاء؟ ببساطة ولنكن واقعيين سيكون من السذاجةِ بمكان أن يقوم الكيان باجتياحٍ للقطاع، يعلم هو قبل غيره بأنه سيكون مكلف وسيكبده فيها أبطال المقاومة خسائرَ لا يقوى على تحملها، فيما يمكنه فعل ما يشاء من الجو، لكن بالوقت ذاته سيكون من السذاجةِ بمكان ترك الكيان يسرح ويمرح بهذهِ البساطة، لأن ما يجري اليوم أسوأ مما جرى في حروب 1948، 1967، ما يجري اليوم فعلياً هو إعادة تشكيل لخريطة الشرق وأي تعاطٍ معها خارج هذا السياق هو نوع من الهروب للأمام، والاستسلام لما تحقق من إنجازات في بداية العملية هو كذلك الأمر أشبه بإبر التخدير، بل علينا الاستثمار بما تحقق من إنجازات لا الاكتفاء بالتغني بها من دون أن ننسى بأن نجاح التجربة الإسرائيلية في قطاع غزة ستعني حكماً أنها لن تقف عندَ حدود غزة، أما فشلها فسيعني حكماً فرضَ واقعٍ جديد لا يقبل القسمة على اثنين وعلينا أن نختار!