ثقافة وفن

«الليل سيترك باب المقهى» مشهدية وتوظيف الغنى المعرفي والتراثي … يارب إذا فار التنور وصار الماء على الماء فلا جوديّ سوى لطفك

| إسماعيل مروة

الشاعر محمد البريكي شاعر مطوّب لا يحتاج إلى أن يكتب فيه، فهو دائم الحضور، وثابت في منزلة الشعر، وحين أطلعني صديقي الدكتور محمد سعيد عتيق الشاعر الجميل على ديوان «الليل سيترك باب المقهى» استرعى اهتمامي العنوان، ومن ثم دلفت إلى عوالم المجموعة الجميلة، ووجدتني منجذباً إلى خاصتين في المجموعة، هي خاصة المشهدية المسرحية القصصية الحياتية، وخاصية الغنى المعرفي والتراثي، واستلهام النص وتوظيفه بتناص وبغير تناص، فالشاعر ينهل من مخزون استوعبه بتمامه.

سيترك باب المقهى

دهشة العنوان، فلسفة العنوان، انسيابية العنوان، ما شئت يمكن أن تطلق عليها، فالعنوان في النقد والإعلام هو العبارة المفتاحية الأولى التي قد تجبرك على اكتشاف الكنه، وقد تقصيك عن عالم ما، بغض النظر عن جماله، والشاعر هنا عنون «الليل سيترك باب المقهى» من النواحي اللغوية نحن أمام كلام مرسل انسيابي لا علاقة له بالخطابة والافتتان، وهذا بحد ذاته يعدّ براعة في التلطف للقارئ.. ومن ناحية المشهدية نجد أنفسنا أمام صورة مكتملة الأركان (الليل ودلالاته، المقهى وخصوصيته، الباب وما يخفي وراءه) فيبدأ السؤال: عن أي ليل؟ ليل الألم؟ ليل العشق؟ ليل السكينة؟ ليل الظلمة؟ عن أي مقهى؟ مقهى الثرثرة؟ مقهى الفراغ؟ مقهى شؤون الناس؟

عن أي باب؟ باب الأمل؟ باب المصيبة؟ باب الخفايا؟

يمسك البريكي يد القارئ ليقدم مشهدية مفتوحة على المقهى، الحانة، الشارع، الناس.

لا تعنيني نشوةُ من في الحانة

أو ضجة من في المقهى

فالشارع أكثر سكراً من كل أولئك

فالمشهد لا يصور مقهى أو حانة، وربما كانت الحياة كلها ترتسم في هذه الصورة، فالشاعر يقدم التفاصيل ليقدم مشهداً عاماً، ويقدم توطئة ليخرج إلى صورة عامة، وكأنه يقول: ما في الحياة والشارع أكثر إدهاشاً مما في الحانة، وكلاهما سُكر وضجيج.

لا من خمر يترنّح

لكن طال عليه الصبر

فمال على حائط بيت مكتهل

ويقوم دعاء

ورأى فيما لا يدركه النشوان

ملائكة تتنزل

أمطاراً تشدو

وسماء

قرر هذا الشارع أن يلبس ثوب الليل

على باب الحائط

فالليل سيترك باب المقهى

الجزء من الصورة والكل

أما البحر وتداول الأدوار بين الشاعر والبحر بما يمثله من شكل وغموض وتراث وحياة، يقدم الشاعر صورة مختلفة تحتوي الحياة والغموض والرهبة والخوف، مع أنه يبادئ البحر ويصدمه بأنه لم يعد ليحتفي به ويهتم!

لم أعد أحتفي بك

فاجلس على شرفة الوقت

سوف أنام قليلاً وأحلم أني أنا البحر

والأمنيات على الموج ليست سوى باخرة

أيها الأنت

كم كنت أركض خلفك دون حذاء

وشعري الذي يتساقط من شدة العدو

تنهش طاحونة الخوف منه

وأطعمه غيمة حائرة

ها هو الشاعر يلقي قصيدته ويعدو، ويتخلص من طاحونة الخوف على شرفة الوقت بعد أن تبادل الأدوار مع البحر.

الغنى المعرفي والموروث

في الدراسات الأدبية الحديثة يتحدثون عن التناص، وفي القديمة عن التضمين، وفي كل الحالات، ولسنا في مكان متخصص، فإن الشاعر يدهش قارئه بكم الصور التي تنثال في الشعر القوي، ويقف القارئ بإعجاب أمام الموروث الحاضر في الشعر الذي وظفه الشاعر ببراعة دون أن يستعرض معارفه

على مهل حين تسقط يا دمع

فالخدّ ليس هو السفح

كي يتحمّل جلمود صخر هوى من أعالي العيون

لقد سقطت قلعة المشرق المتشبث باللغة المستجيرة بالنار

من لهبٍ ورياحٍ تجرح جبهة فرسانها في الصحارى

وجاءت لها من وراء الظلام شياطين

تحمل حقداً دفيناً

لتعبر بالخيل

(السفح، الجلمود، الصخر، أعالي العيون، المستجيرة بالنار، الخيل).

مجموعة من الألفاظ والأفكار التي ضمنها الشاعر في هذا النص البديع، توازي الألم بين الدمعة وما سواها، والاشتراك مع امرئ القيس، جلمود صخر حطه السيل من عل، ودمعة على سفح خدّ من أعالي العيون.. ليعطي صورة تراثية غاية في التوفيق، كالمستجير من الرمضاء بالنار! فهل تكون النار ملاذاً بحق؟

عند وجود الحقد الدفين المستعين بالخيل العابرة

بين نوح والتنور

وتعدّ قصة نوح عليه السلام من القصص الملهمة، لكن الانتقاء والتوظيف يأخذان شكلاً آخر عندما يتجلى اختمار الشعر والتوظيف.. ويعيده إلى قابيل وهابيل والغراب، وكأن الحياة سياق واحد وزمن ممتد.

هل هذا الجو الساكن

يعني أن هدوءاً يسبق عاصفة لا تبقي؟

هل ثمّ غراب يبحث في الحال

يواري سوءة هذا الجشع

لتنبت بعد جفاف أشجار الوجدان؟!

يا رب إذا فار التنور.. وصار الماء على الماء

وطافت في الخوف سفينة هذا العمر

فلا جوديّ سوى لطفك

فالموج تعاظم

(الجو الساكن، عاصفة، غراب، سوءة، فار التنور، الماء على الماء، الجودي، سفينة هذا العمر)

صورة نوح ما قبل الإبحار وموازاتها لما نحياه اليوم ويصوره الشاعر.

الغراب الذي وارى سوءة أخي قابيل هابيل، فعلمه الدفن، التقابل بين الجشع اليوم والجشع القابيلي.. والصورة القرآنية (فار التنور) وسفينة نوح من كل زوجين اثنين، وسفينة العمر الحالي.. والاستواء على الجودي في ظل موج متلاطم زمن نوح، وموج متعاظم اليوم.. والجودي اللامكان عند الشاعر، إنه اللطف من القادر.

أكاد أزعم أن هذه المجموعة الشعرية تحمل من المشهدية ما يصل إلى مراتب الشعرية فيها، وفيها الكثير من صفات الشعر المتفوق الذي يستحق أن يعرف ويحفظ، وفي المجموعة من الغنى المعرفي والتراثي، والتوظيف النقدي الذي وظفه الشاعر بحرفية عالية، ما يجعله في إطار النصوص المدهشة..

فيها التراث والبحث عن فلسفة الوجود، فيها الإيمان المغلف بشفافية الروح، وفيها قبل كل شيء شعر من نسق مختلف ومتميز.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن