مع انطلاق عملية «طوفان الأقصى» فجر يوم السبت 7 تشرين أول الجاري أظهرت مواقف الحكومات الغربية ذهولاً بدا واضحاً كما لم يكن في أي جولة من جولات الصراع السابقة التي «احتفلت» شهر أيار الماضي بـ«يوبيلها الماسي»، وفي طيات ذلك الذهول، بدا أن ثمة خشية من أن يؤدي الفعل إلى انكسار «عصاها» التي لطالما لعبت، منذ العام 1948، دور «أداة» أقل تكلفة لحراسة مصالحها حيث البديل هو التدخل المباشر عالي التكلفة المادية من جهة، ثم التارك لـ«لطخات» على «ثوبه القيمي» الذي حرص على الظهور به في أعقاب التحولات الجارية على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، والتي حملت معها رياحاً نسفت مفاهيم الاحتلالات العسكرية والمباشرة، وفي حينها كانت بدائل الغرب قد مضت نحو رفع شعارات من نوع الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي شكلت «مقلاعه» الذي راح يدك به «حصون» الدول الخارجة عن «الطاعة» فيما ظل المنصاعون لها بعيداً عن الفعل عبر مبررات شكلت، لكثرة أدبياتها، نظريات وفلسفات جرى تسويقها عبر منتديات وكتب ومناظرات.
بعيد التقاط الأنفاس الذي استغرق نحو 48 ساعة، مضت الحكومات الغربية في بلورة إستراتيجياتها لمواجهة «الطوفان»، والأخيرة قامت على منحيين اثنين، أولاهما الذهاب إلى رفع حالة الإسناد والدعم، لـ«العصا»، لدرجة وضعت تلك الحكومات بوضعية «أم العروس» وأبيها في آن واحد، الأمر الذي ظهر بوضوح عبر قرار واشنطن بتحريك سفنها وحاملات طائراتها إلى شرق المتوسط لتزويد إسرائيل بما تحتاجه في سياق المسار الرامي لإطالة البقاء، ثم ظهر عبر قرار لندن، اللاحق لهذا الأخير، القاضي بإرسال سفينتين «تابعتين للبحرية الملكية البريطانية إلى شرق المتوسط إظهاراً للدعم العسكري لإسرائيل بغية «طمأنتها» وفقاً لما أوردته صحيفة «التايمز» البريطانية في تقرير لها نشرته بعد أربعة أيام من «الطوفان»، وثاني المنحيين، هو الاشتغال على تشويه ما يجري ومعه صورة الرابض في الخندق المواجه، ففي الوقت الذي قال فيه الرئيس الأميركي جو بايدين إن «مسلحي حماس قاموا بهجمات مقززة على المدنيين» قبيل أن يضيف «لقد قاموا أيضاً بذبح الآباء الذين حاولوا حماية أطفالهم»، كان نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يقول إن ما يجري في الأراضي الفلسطينية «ليس حرباً بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بل حرب يشنها الإرهابيون ضد أمة ودولة ومجتمع، وضد القيم الديمقراطية»، وما بينهما كان رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك يقول إن أعضاء حركة «حماس» هم «إرهابيون وليسوا مقاتلين من أجل الاستقلال»، الأمر الذي راحت تنسج قيادات الغرب الأخرى على منواله ومنهم رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو الذي قال: «إرهابيو حماس ليسوا مقاومة، وليسوا مقاتلين من أجل الحرية، إنهم إرهابيون ولا ينبغي لأحد في كندا دعمهم».
هذا لا يمثل الغرب، بل يمثل فقط سطحه السياسي الذي أفرزته مراكز قوى تمتد بين مؤسسات صناعة السلاح والبنوك ومراكز الدراسات التي تنتج الأفكار الحامية لمصالح هؤلاء، فصورة الغرب الحقيقي تبرز من خلال شارع سارع، يوم الجمعة الماضي، إلى تلبية دعوة «حماس» التي أطلقتها لجعل هذا اليوم الأخير تعبيراً عن التضامن معها، المظاهرات عمت هولندا وإسبانيا وسويسرا واليونان والولايات المتحدة وفرنسا رغم إبلاغ وزير داخليتها، جيرالد دارمانان، يوم الخميس الماضي بحظر فرنسا للاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، وتبرز أيضاً من خلال 35 منظمة طلابية في جامعة هارفارد الأميركية الشهيرة وهي أدانت سابقاً نظام الفصل العنصري الذي أقرته إسرائيل ضد الفلسطينيين، بل إن تلك المنظمات كانت قد حمّلت، وفق ما نشرته جريدة «اللوفيغارو» الفرنسية مؤخرا، سلطات الاحتلال المسؤولية عن «العنف الجاري حالياً في فلسطين»، والسلسلة تطول عند لحظ حراك السطح المجتمعي والثقافي الغربيين، ومنه «هيومن رايتس ووتش» التي سجلت موقفا متقدما قبل سنوات عندما قالت إن «قطاع غزة يعيش في سجن كبير في الهواء الطلق»، قبيل أن تضيف موقفاً آخر لاحقاً له، يوم الإثنين 9 تشرين أول، تعقيبا على تصريحات وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت التي أعلن من خلالها فرض الحصار على غزة، والرد كان لافتا بوصف تلك التصريحات بـ«المقززة» وبأنها تمثل «جريمة حرب».
يبدو أن الشارع الغربي بعيد عن حكوماته التي تشتق قراراتها تبعاً لما تفرضه مصالح «مراكز القوى» الواردة أعلاه، وهو مدرك جيداً لطبيعة الحراك الذي اختطه الشعب الفلسطيني لنفسه شأنه في ذلك شأن أي شعب استلبت أرضه وحريته وكرامته، ففي مرحلة معينة ظهرت منظمة «فتح» لتطفو على السطح كمسؤولة في الدفاع عن الهوية الفلسطينية، ثم تغيرت المعطيات فكانت حركة «حماس» جنباً إلى جنب «الجهاد الإسلامي» مسؤوليتين عن هذا الفعل الأخير.
غداً، أو بعد غد، لا أحد يعلم من سيحمل الراية التي يصر الشارع الفلسطيني على ألا تسقط، من دون أن يعني هذا الكلام ترجيحاً لنجاح إسرائيل في هدفها المعلن راهناً بـ«إزالة حماس»، فما قامت به الأخيرة سيجعلها أكثر انغراساً في الذات الفلسطينية الناهضة بدرجة سيصبح معها الاثنان شديدي الالتصاق إلى حدود التماهي.