ثقافة وفن

عصفور محكوم بالإعدام

د. راتب سكر

-1-

تناقلت أخبار ما جرى في فلسطين مؤخراً خبر استشهاد الشقيقين: نائل وإياد جمال الدرَّة، مذكِّرةً أن أخاهما محمد الدرَّة كان قد سبقهما طفلاً على طريق الشهادة، في 30 أيلول من سنة ألفين، قبل ثلاث وعشرين سنة، في مشهد تاريخي استثنائي سيبقى في الذاكرة الاجتماعية العربية مصدراً من مصادر وحدتها الوجدانية والثقافية، إذ غدا ذلك الطفل الذي تمكنت وسائط التصوير التلفازي الحديثة، من مرافقته يحتمي تحت إبط والده «جمال»، الأب الفلسطيني الطيب البسيط، متقياً أذى زخات الرصاص بكفِّه العزلاء، قبل أن تطول ولده الصغير، الذي غدا منذ تلك الأيام رمزاً من رموز انتفاضة شعبه، وعزة أمته المتشبثة بأنوار نهضاتها، وهي تواجه ظلمات دروبها، وانكسارات أحلامها التاريخية الكبرى.

-2-

لا تهدف هذه الكلمات إلى رسم ملامح تعزية ومواساة لأبي إياد والد الشهداء الثلاثة، فصورته في وجداني منذ خريف سنة ألفين البعيد ذاك، محاطة بهالة نورانية قادرة على منحه قوة قاهرة لا تحتاج من يشدُّ من أزرها بكلمة، ولعلَّني أقبس من قوة يده العزلاء ما يعزِّيني في ضَعفِي، وقد انبَسطَتْ بأصابعها الخمس تَرْجُفُ محاولةً ردَّ كَيْدِ الرصاصِ عن محمَّد الطفل، كأنها تَحْسُبُ برَجَفَانِها عنه الغنى «علم الحروبِ»، حتى وَجَدْتنِي مواجِهاً مسلسلَ الصور والقصائد والروايات والحالاتِ المشابهة، بغناءٍ أسيان يطْرُدُ عنِّي وِحشةَ دروبي، يشبه غناءَ بدويٍّ ممعنٍ في الهجرات في صحارى وجوده.

-3-

تنوعت صورة الطفل الشهيد محمد جمال الدرة في أدبنا العربي المعاصر تنوعاً غطى صفحات كتب: شعرية وسردية ونقدية كثيرة… منها كتاب الشاعر أيمن أبو شعر «عصفور محكوم بالإعدام»، الذي حمل عنوانَ قصيدةٍ رئيسةٍ فيه، نُسِج جوهَرُ موضوعِها من اللوحات الدرامية للمشهد الاستشهادي»:

«عصفورٌ يتشَبَّثُ بينَ ضلوعِ أبيهْ

يتكَوَّرُ كالعنقودِ بِدِفْء الإبطِ ويوغِلُ فيهْ».

وسرعان ما تتحول الطفولة في هذا المشهد إلى طير رمز لنقاء العالم، وهو يواجه حالات عمائه، محتاجاً إلى استنهاض رموز ثقافاته الماضية والحاضرة، علَّها تمسح عن عينيه غشاوة العماء:

«لو «داوود» الشادي بعث اليومَ

لَتَرْجَمَ بوحَ أنين الطير الشاكي

في عَشَرَاتِ مزامير

و«سليمان» الحاكي بلسان الطير».

وإذ تصطدم أمنيات الشعر، بقسوة واقع حالها، يؤاخي حزنها الغضب، فتنتهي القصيدة إلى صرخات غاضبة، كثيراً ما ألهبت أكفَّ مستمعيها في القاعات بتصفيقٍ يشبه الصراخ، أما اليوم، وقد مضى على موضوعها وتجليه بالشعر، فيطل نشيدها من جديد مواجهاً تكرار مفرداته وأخواتها، ليعيد بخاتمة القصيدة، قرارها الأخير، في مواجهة «تاريخ ضرير، وعالم دون ضمير»:

«يا رعشةَ قلبي يا وجه محمدْ

كنتَ ضميرَ العالمِ والتاريخُ ضريرْ

حدَّقْتَ بِقَلْب الإنسان وحينَ سَقَطتَ

على عنقِ الشارعِ أضحى العالمُ كلُّ العالمِ

دونَ ضميرْ».

بعد ثلاث وعشرين سنة مرت على استشهاد الطفل محمد، يستشهد أخواه إياد ونائل، وأنت يا «جمال» أيها الإنسان الطيب البسيط، والأب المؤمن الصابر، ارفع يدك التي نعرفها جيداً، ولوّح بها من بين الأنقاض، فأمتك تراها، والعالم يراها، بكل ما فيه من محبة وضمير!…

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن