يوم الأحد الماضي، 22 تشرين الأول، كان رئيس وزراء كيان الاحتلال يزور إحدى قطعات الجيش الإسرائيلي عند أقصى الحدود الشمالية لفلسطين، وفي تلك الزيارة التي كان هدفها الواضح هو الشد من عزيمة محاربيه الذين بدوا كمن يعوزهم الكثير في هذا السياق بفعل «الطوفان» الذي سرى في قطعات «أشقائهم»، عند «الغلاف»، كما سكين حادة في قالب زبدة كان قد تعرض للشمس، وفي تلك الزيارة يتوعد، بنيامين نتنياهو، حزب الله، ومعه لبنان، بـ«دمار كبير» لم يسبق لهما أن شاهداه، وقبيل ذلك بيومين كانت صحيفة «نيويورك تايمز» تنشر تقريراً عرجت من خلاله على القول: إن وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت كان يريد، منذ بدء «الطوفان»، توجيه ضربة استباقية لحزب اللـه «لردعه عن الاستعداد للحرب»، ويضيف التقرير: إن نتنياهو عارض تلك الإرادة بقوة ومثله فعلت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي ارتأت أن الفعل من شأنه «جر إيران للحرب» ومن ثم الدفع بـ«الولايات المتحدة للانجرار لها».
هذا يشير، وفي الأمر ما يدعو إليه، إلى حسابات إسرائيلية، وكذا غربية، مفادها أن دخول حزب اللـه على خط الصراع يمكن له أن يغير الكثير من المعادلات ومعها أيضاً الكثير من النتائج التي ستفضي إليها حالة الحرب الراهنة في غزة، لكنه يشير أيضاً، في مقلب آخر، إلى وضعية، وجد الحزب نفسه فيها، هي أقرب في تصويرها للقابض على الجمر المتقد من كل أطرافه، فعلى «جنب» جمهوره هناك الدعوة لنصرة غزة تماشياً مع العقيدة والشعارات، وعلى «جنب» الخصوم هناك الاتهام بالتقاعس عن القيام بذلك الفعل على الرغم من أن كل الأدبيات تقوم، في جزء مهم منها، على عروبة فلسطين وحرمة الأقصى، فيما على «الجنوب» العربية هناك من يتحين الفرصة لرؤية «يوم» فيه لطالما طال انتظاره، وأصحابها لن يدخروا جهداً، ولا الدفع بكل إمكاناتهم، لتقريب ذلك «اليوم»، مثل معطيات كهذه تشكل عامل ضغط كبيراً على صانع القرار في الحزب من دون أن يعني ذلك أن هذا الأخير خال من الحسابات الإقليمية التي تلعب في القرار دوراً لا يمكن إغفاله.
السؤال الذي يبرز هنا تلقائياً هو: ما الذي ينتظره حزب اللـه الآن لكي يدخل المعركة؟ ثم لمن، وإلامَ تدخر كل تلك القدرات التي ابتناها على مدى سنوات؟ إذا لم يكن لعدو أعلن على لسان رئيس وزرائه، يوم الأحد الماضي أيضاً، أن «حرب غزة مسألة حياة أو موت بالنسبة لإسرائيل»؟ ومن دون شك يمكن القول: إن تقديم أجوبة مباشرة عن الأسئلة السابقة سوف يحمل معه الكثير من «المسكوت عنه» ومما لا فائدة ترتجى من قوله الآن، هذا إن لم يكن يصب في حالات من نوع «نكء الجراح» الذي يسيل الدماء في وقت لم يعد فيه «سرير النهر» كافياً لتنظيم مجرى الدماء، دماؤنا، التي انساحت كما لم يحدث من قبل.
في معرض تقديم إجابات يمكن أن تأخذ بعين الاعتبار الحالات «المسكوت عنها» لكن من دون أن تصبح هذي الأخيرة حاكمة لكل مآلاتها، يمكن القول إن الحزب مارس، على مدى ثلاثة أسابيع من بدء الصراع، سياسة حذرة في تعاطيه مع الصراع الذي بدت تراسيمه تشير إلى أنه غربي – شرق أوسطي، وعلى الرغم من أن عملياته أظهرت، حتى الآن، انضباطاً يراعي قواعد الاشتباك التي أفرزها القرار 1701 لعام 2006، إلا أنه سعى إلى تكثيفها عبر مناوشات تهدف إلى إشغال ما يقرب من نصف مقدرات الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي يحقق هدفاً تكتيكياً يتمثل بتخفيف الضغط عن المقاومة في غزة، ناهيك عن أن الفعل قاد إلى قرار إسرائيلي بإخلاء المستوطنات من المناطق المحاذية للحدود اللبنانية بعمق خمسة كيلومترات، الأمر الذي سيشكل ضغطاً لوجستياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً على كيان يعيش لحظة إرباك لربما غير مسبوقة في تاريخه، لكنه في الآن ذاته ما انفك يواصل استعداداته العملياتية واللوجستية مما أقرتها التقارير الغربية والإسرائيلية على حد سواء، تحسباً لاحتمال تحول المواجهات الجارية في جنوب لبنان مع القوات المحتلة إلى حرب تطول كل محاور الجبهة، والمؤكد أن الهدف الذي رسمه الحزب لنفسه منذ اندلاع الصراع يتمثل في منع الكيان الإسرائيلي من تحقيق هدفه المعلن الذي اختصره بضرورة «اجتثاث» حماس في غزة، لكن كيف؟ ومتى؟ وما السبيل إلى ذلك؟ فذاك مرتهن بالتطورات والمستجدات التي ستفرضها الوقائع والمعطيات التي سيفرضها الصراع على ضفافه المتعددة: الداخلية، التي يقصد بها هنا اللبنانية، ثم الإقليمية والدولية، وفي ذاك يمكن القول: إن كل تلك «الضفاف» تحمل معها يومياً رزمة من المتغيرات التي يأخذ بعضها طابع الانزياح الجزئي مما يشير إلى حالة استعداد يصبح معها ذلك الطابع من النوع الوازن.
في حسابات الموقف عند حزب اللـه هناك رزمة من المعطيات التي ستحدد خياراته القريبة والبعيدة، أبرزها تطورات العملية البرية في غزة التي باتت أمراً محتوماً، ومنها الحسابات الإقليمية التي تأخذ بعين الاعتبار مسألة موازين القوى التي بات الوجود الغربي فيها عاملاً لا يمكن تجاهله، لكن تبقى هناك نقطة مهمة في تلك الحسابات، ولربما كانت، هذي الأخيرة، هي العثرة الكبرى في مسار التحديد آنف الذكر، وهي تتمثل في الجبهة الداخلية اللبنانية التي تعاني انقساماً كبيراً ليس تجاه دور الحزب فحسب بل تجاه ما يجري في غزة أيضاً.
وإلى أن تتبلور المعطيات، ثم تنكشف المعطيات التي لا يزال البعض منها غامضاً، تبقى كل الخيارات مفتوحة، والحزب سوف يحتفظ بكلمة سره إلى أن يجد لزاماً عليه البوح بها على الملأ.