في أثناء الحرب الأميركية على فيتنام 1964-1975، كان العالم يعتقد أنها أفظع الحروب الوحشية التي خاضتها الولايات المتحدة بعد الحرب الكورية عام 1953، وكان الرأي العام وحكوماته لا يعرفون عن وحشية تلك الحرب إلا إذا قاموا بزيارة ميدان تلك الحرب، لأن ما كان ينقله المراسلون عنها يخضع لرقابة الغرب كله، وفي ذلك الوقت لم يكن لدى الثوريين الفيتناميين ما يكفي من وسائل إعلامية ينقلون بواسطتها ما تنفذه القوات الأميركية من غارات جوية تقتل فيها الأطفال والنساء وتدمر المباني على من يسكنها، كما لم يكن في عام 1948 في أثناء النكبة لدى الفلسطينيين قدرة على نقل المذابح التي كانت العصابات الصهيونية المسلحة تنفذها بالقرى والبلدات الفلسطينية لكي ترهب الفلسطينيين وتجبرهم على مغادرة أراضيهم وبلداتهم، ولم تظهر صور تلك المذابح ووثائقها إلا بعد انتهاء الحرب ومرور سنوات كثيرة على أحداثه.
وفي النهاية انتصر الفيتناميون عام 1975على القوات الأميركية التي أرادت تحويل فيتنام الجنوبية إلى إسرائيل أخرى بعد أن جندت لأجلها أكثر من نصف مليون من الجنود الأميركيين، وبدأت تظهر بعد هذا الانتصار حقائق موثقة عن المذابح الوحشية التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام.
ومع ثورة الاتصالات وتوسع وسائطها في القرن الحادي والعشرين بات العالم كله قرية صغيرة يمكن الكشف عن معظم تفاصيل ما يجري فيها بالصورة والوثائق، وأصبح كل البشر قادرين بسهولة على رؤية ما يجري في معظم أرجاء هذا الكوكب، وكان قدر العالم العربي هنا في الشرق الأوسط وبقية العالم كله، أن يشهد معظم تفاصيل الحروب التي كان الكيان الصهيوني يشنها بكل الأشكال الوحشية على الشعوب العربية منذ الثمانينيات والتسعينيات حتى هذه اللحظة.
ومع كل انتصار كان محور المقاومة يحققه منذ الثمانينيات حتى الآن، كان الانخراط العسكري الأميركي – الغربي المباشر يتسع منذ التسعينيات وحتى هذه الأوقات في الحروب، من احتلال أفغانستان 2001 إلى احتلال العراق عام 2003 إلى الحرب ضد كل أطراف محور المقاومة منذ عام 2011، بمشاركة أميركية مباشرة ضد سورية والمقاومة بشكل خاص، وكان من المحتم أن تظهر وحشية هذه الحروب وبخاصة حروب الكيان الإسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة أمام أعين كل حكومات وشعوب العالم في كل لحظة، وها هي وحشية الكيان الصهيوني تصل إلى أقصى مستوياتها بقتل الأطفال والأمهات في غزة بغارات جوية دمرت بوساطتها أكثر من 40 بالمئة من بيوت وأبنية قطاع غزة انتقاماً لهزيمته أمام المقاومة التي كبدت جيش الكيان خسائر بشرية في قلب مستوطناته وأسرت أكثر من مئتين وثلاثين من الجنود والمستوطنين المسلحين.
مع وجود ثورة الاتصالات بدأت ترتسم دون توقف معظم صور هذه الوحشية، وبدأ الرأي العام الغربي نفسه لا يتحمل السكوت عنها وهو يرى حكوماته تستخدم الخطاب الإعلامي والسياسي العنصري الوحشي نفسه الذي يتخذه قادة الكيان قتلة الأطفال والأمهات بعد أن بلغت نسبة الشهداء منهم 75 بالمئة في حرب إبادة من سلاح الجو من دون توقف، وهذا ما جعل معظم المثقفين في أوروبا بموجب ما ينشرونه يشعرون أن عالم ما بعد الحرب على قطاع غزة يجب أن يحمل معه ثورة على كل الحكومات الغربية التي تبنت الوحشية الإسرائيلية ودعمت مذابحها.
على الجانب الآخر في الكيان نفسه بدأت تتزعزع ثقة المستوطنين الذين يعدون خزانه البشري، بعدم الثقة بقدرات قيادته وجيشه على تأمين حمايتهم من دون خوف وهلع، وباتت نسبة تزيد على 50 بالمئة منهم تعد نفسها لمغادرة الكيان والانتقال للعيش الدائم في الدول التي جيء بهم منها بموجب جنسياتهم التي يحملونها من تلك الدول، وهنا بالذات تكمن الهزيمة الاستراتيجية التي حققتها المقاومة حتى هذا الوقت وخلال مقاومتها المستمرة طوال 18 يوماً من دون توقف رغم التضحيات البالغة، بل إن هؤلاء المستوطنين أدركوا بعد عشرات السنين أن الغرب نفسه لم يعد بمقدوره تأمين حماية وجودهم هنا بعد أن رأوا أنه عجز عن تأمين حماية أوكرانيا، وهم يدركون أن روسيا والصين لديهما كل الأسباب الموجبة للاصطفاف إلى جانب أطراف محور المقاومة لزعزعة النظام الأميركي- الغربي الذي تدهورت قدراته أمام القوى الأخرى التي تتربص به وتعد نفسها لبناء نظام عالمي جديد ينهي نفوذه في العالم كله وليس في الشرق الأوسط وحده، فالحرب على غزة تحولت إلى بوابة مواجهة عالمية سيكون فيها الكيان الخاسر الأكبر.