كان لافتاً جداً مدى التناغم الأميركي الإسرائيلي فيما يتعلق بشن العدوان على غزة بعد عملية طوفان الأقصى التي سطرتها فصائل المقاومة الفلسطينية في فجر السابع من تشرين الأول الحالي، حتى أن من تابع تصريحات جوقة الإدارة الأميركية وجولاتهم الدبلوماسية التي بدأها وزير الخارجية أنتوني بلينكن ثم وزير الدفاع لويد أوستن ومن ثم قائد القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط «سينتكوم» الجنرال مايكل كوريلا قبيل وصول الرئيس جو بايدن لتل أبيب، يدرك أن هذه الحرب هي حرب تمس المصالح الأميركية وربما يكون جزء كبير منها يرتبط بأهداف الغرب على مستوى المنطقة فيما يتعلق بإعادة التموضع الجيواستراتيجي للحد من توسع النفوذين الروسي والصيني فيما يطلق عليه المجال الحيوي لمنطقة الشرق الأوسط.
اللافت في جملة التصريحات المشتركة الأميركية – الإسرائيلية، التأكيد على ظهور معالم جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، وهو ما يعيدنا بالذاكرة الحديثة إلى عدوان تموز 2006، وخاصة تصريح وزيرة الخارجية الأميركية حينها كونداليزا رايس عن معالم شرق أوسط جديد أو ما عرف بالفوضى الخلاقة، التي كانت تسعى الولايات المتحدة الأميركية لتكريسها في المنطقة من خلال القوة العسكرية عبر قوات الاحتلال اعتقاداً منها بقدرة إسرائيل بدعم عسكري وغطاء سياسي أميركي، على إعادة تغيير الخريطة الإقليمية من الجغرافية اللبنانية وصولاً للجمهورية الإسلامية الإيرانية مروراً بسورية والعراق المحتل.
إلا أن الفشل العسكري الاستراتيجي، وفق توصيف مراكز الأبحاث الأميركية، من تحقيق هذه الأهداف عام 2006، هو الذي دفع مراكز صنع القرار المشتركة الأميركية – الإسرائيلية، لاستهداف دول المنطقة من خلال القوة الناعمة أو ما يعرف بالحرب الصفرية وباستخدام أدوات حرب الجيلين الرابع والخامس، بهدف إدخال هذه القوى الإقليمية في أزمات داخلية تستنزف قدراتها وإمكاناتها، وتلفت اهتمامها نحو مشكلات الداخل ومساومتها على مواقفها السياسية، لذلك تم إيجاد البيئة المناسبة لانتشار الإرهاب في سورية والعراق، إلى جانب تغذية الصراعات الطائفية والعرقية والإثنية على غرار الصراع السني – الشيعي، والانفصال الكردي وغيرها من أشكال هذه الصراعات التي تمنح الكيان مبررات دينية لممارسة عنصريته وهمجيته، ولتكريس واقع الأزمات في هذه الدول أو ما يعرف بمحور المقاومة، فرضت الولايات المتحدة الأميركية أقصى أشكال العقوبات الاقتصادية، ما زاد من تفاقم الأوضاع اليومية لمواطني هذه الدول نتيجة إفرازات هذا الحصار والمتمثلة بانتشار الفساد ومحاولة تحميل القيادات السياسية مسؤولية ذلك.
في ظل هذه الأحداث لم تكن القضة الفلسطينية ولاسيما من حيث التصفية وتعميق الاحتلال الإسرائيلي، بعيدة عن استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية، إذ ساومت واشنطن دمشق على مواقفها مقابل وقف الحرب عليها، وسعت لإخراج طهران من معادلة الصراع مقابل تطبيق بنود الاتفاق النووي، كما حاولت جر العراق لاتفاق سلام مع الكيان، وجهدت لخلق الفتنة مجدداً في لبنان وفرضت العقوبات وشيطنت مقاومة حزب الله، كل ذلك لتأليب الرأي العام ضد المقاومة ومحاصرتها داخلياً، وهو ما ألمح إليه رئيس الدبلوماسية الأميركية السابق مايك بامبي الذي زار لبنان في شباط 2020، ووضع الشعب اللبناني بين خيارين لا ثالث لهما، إما حصار الحزب وإقصائه من المشهد السياسي والعسكري أو مواجهة العقوبات الاقتصادية، تزامن ذلك مع هندسة معالم اتفاقات «إبراهام» التي تبناها الرئيس السابق دونالد ترامب في استغلال هذه التطورات لتحقيق المصالح الإسرائيلية.
وسط هذه التطورات في الشرق الأوسط كانت الاستراتيجية الأميركية وبخاصة منذ عام 2010، تركز على نقل ثقلها وجودها الاستراتيجي باتجاه جنوب شرق آسيا لاحتواء تمدد النفوذ الصيني، وفي شرق أوروبا للحد من تأثير الدور الروسي، اعتقاداً منها أن منطقة الشرق الأوسط ولاسيما في ظل ما تعيشه معظم قوى محور المقاومة من استنزاف، والاندفاع المستغرب من بعض الدول العربية للانضمام في قطار التطبيع، ستكون مقومات التفوق الإسرائيلي محسومة، ولم تكن واشنطن في وارد أن تتمكن فصائل المقاومة الفلسطينية من تطوير قدراتها القتالية والصاروخية وجهوزيتها التكنولوجية في ظل الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة من جانب، ومن جانب آخر نتيجة ما تمر به دول قوى المحور من تحديات داخلية.
الصورة اليوم باتت مختلفة، ولاسيما بعد مسارعة الولايات المتحدة الأميركية لإرسال قوات مفرطة لشواطئ البحر المتوسط تتمثل في حاملتي الطائرات «جيرالد فورد» و«إيزنهاور» إلى جانب البوارج والفرقاطات والطائرات التي ترافقهما، وإعادة تموضع الطيران الحربي في المنطقة وزيادة عتاد المقاتلين الأميركيين، ونشر المزيد من المضادات الجوية في القواعد الأميركية، وغيرها من أشكال التموضع العسكري، الأمر الذي يدفعنا لتبني سؤال الرئيس فلاديمير بوتين عن سبب إرسال كل هذه القوات للمنطقة؟
الجواب بالتأكيد ليس لحماية أمن هذا الكيان الذي يمارس أفظع أشكال الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني بضوء أخضر أميركي – غربي، بل هو أبعد بكثير من ذلك وينطلق من ثلاثة احتمالات تشكل فرضيات نظرية تستند على متغيرات ميدانية:
الاحتمال الأول: يتمثل في تحول هذه القوة المفرطة وإعادة التموضع العسكري الأميركي في المنطقة لقوة ردع لباقي محور المقاومة في دخول هذه الحرب إلى جانب الفصائل الفلسطينية، ولاسيما أن دول المحور في أكثر من مناسبة أكدت على جهوزيتها القتالية، وخاصة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله الذي بين أن أي تصعيد تجاه الأقصى والشعب الفلسطيني، قد يتحول لحرب إقليمية.
ولكن هذا الاحتمال نسبته ضئيلة بالمقارنة مع التطورات التي تشهدها الأراضي المحتلة والمنطقة عموماً، إلا أن كانت هذه القوات جزء من استعراض انتخابي للرئيس الأميركي جو بايدن، إذ إن الدعم اللامحدود من قبل واشنطن لتل أبيب ودعمها للقيام بارتكاب المجازر وعدم الضغط عليها لوقف العدوان وممارسة الضغوط الأميركية على الدول العربية لإدانة المقاومة وتهجير مواطني غزة، إضافة لانضمام بارجتين حربيتين للمملكة المتحدة وعدد من الطائرات الحربية للقوات الأميركية في المتوسط، واحتمال انضمام عدد من الغواصات الألمانية والسفن الفرنسية، كل ذلك يشي بأن هناك شيئاً أكثر من إحداث ردع استراتيجي.
الاحتمال الثاني: يكمن بأن هناك مخططاً أميركياً– إسرائيلياً – غربياً، كان يحضر منذ فترة، لاستهداف إحدى قوى المحور بما فيهم لبنان أو سورية بالتحديد، بعد استنزافهما اقتصادياً، والقيام بعمل عسكري ضدهما أو ضد أحدهما، على غرار الغزو الأميركي للعراق بعد الحصار.
مثل هذا الاحتمال هو وارد وهو غير مستبعد وقد تكون عملية «طوفان الأقصى» سرعت من محاولة تنفيذه أو خلطت الأوراق قبل البدء به سواء بشكل مقصود أم لا، ولكن حصول هذا الاحتمال لا يمكن أن يتم من دون الأخذ بعين الاعتبار من قبل مراكز صنع القرار الأميركية، اختلاف تحالفات سورية والحزب مع قوى المحور أو مع الدول الصاعدة وخاصة روسيا الاتحادية، فضلاً عن موازين القوى المختلفة عما كان عليه الوضع في عام 2003 عند اجتياح العراق، إضافة لوضع الناتو الغارق في مستنقع الأوكراني.
الاحتمال الثالث: وهو الأخطر ويبرز في إدراك القيادة الأميركية أنه لم يعد من الممكن احتواء الصين في محيطها الآسيوي، وأن روسيا تجاوزت آثار العقوبات الغربية وتنتهج سياسة تقطيع الوقت في أوكرانيا، وأن النفوذ الصيني الروسي بات متسعاً ليصل إلى منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي أشعر الإدارة الأميركية بضرورة استغلال ما حصل من تطور عسكري استراتيجي أحدثته الفصائل الفلسطينية المقاومة من خلال عملية طوفان الأقصى، لاحتواء توسع النفوذين الروسي والصيني من خلال إعادة تموضع القوات العسكرية الأميركية في المتوسط، بما يمثل فاصل قطع وإطلاق مشروع بايدن المعروف باسم الممر «الهندي – الخليجي– الإسرائيلي- الأوروبي» والاستحواذ على غاز المتوسط، وهو ما يتطلب التخلص من أحد أبرز تهديداته الأمنية في الأراضي المحتلة، في ظل عدم قدرة الصين لاستكمال مشروعها «الحزام والطريق» نتيجة الوجود الأميركي بين سورية والعراق، وعدم ضمان الموقف التركي، ودفع الكيان للانخراط بمشروع بايدن.
ومما يؤكد هذا الاحتمال رفض أميركي لأي دور روسي لحل التصعيد داخل الأراضي المحتلة، بعد مسارعة القيادة الروسية لإعلان نفسها وسيطاً نزيهاً، في دلالة لإدراك موسكو للخطوات الأميركية، وهو ما كان سبباً أساسياً لحصول أكثر من كباش وتجاذب سياسي داخل مجلس الأمن بين الطرفين، إلى جانب التأييد الأميركي لنهج تل أبيب فيما تسميه القضاء على الفصائل المقاومة في غزة وتبني روايتها الرابطة بين المقاومة والإرهاب، لتكون ذريعة أميركية – إسرائيلية لبلورة تحالف دولي لتحقيق هذا الهدف.
تغيير معالم المنطقة، هذه الجملة يجب ألا تغيب عن أذهاننا ولا عن أذهان أي متابع أو باحث في الشؤون الإقليمية والدولية، إذ إنه من المؤكد أن معالم المنطقة ما بعد «طوفان الأقصى» هي آخذة بالتغيير ضمن إحدى هذه المسارات الثلاث: إما التوصل لاتفاق هش تفرضه التغييرات في موازين القوى الناجم عن تبدل قواعد الاشتباك وانكسار هيبة الكيان ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية على مستوى المنطقة، ومثل هذا المسار مستبعد لاعتبارات داخلية إسرائيلية وأميركية بالتحديد، أو اتجاه المنطقة وفق مسار الرؤية الإسرائيلية – الأميركية في حال تمكنهما من القضاء على المقاومة وتهجير الشعب الفلسطيني وهذا يمثل خطاً أحمر لكل دول المحور ومن خلفهم الصين وروسيا، أو أن المنطقة ذاهبة لمعالم جديدة تهندسها دول المحور بالشراكة مع الدول الصاعدة التي ستجد نفسها مضطرة للاصطفاف معها لاعتبارات الموقف والجغرافية السياسيتين ولكن هذا المسار لا يمكن أن يحدث إلا بعد توسع دائرة الاشتباك والمواجهة في جبهات القتال.