ربما لم يشهد العالم كله خلال قرن من الزمن مذابح يومية مستمرة ضد أطفال ونساء كالتي شهدها ضد شعب فلسطين منذ السابع من تشرين الأول الجاري وخلال أكثر من عشرين يوما ودون أن تتوقف حتى هذه اللحظة، كما لم يشهد تدميرا لأكثر من 40 بالمئة من كل بيوت قطاع غزة ما زال بعض دمارها يضم جثثا لم يتم إخراجها.
أمام هذه الحقائق كانت كل الحكومات الأوروبية تعلن في كل لحظة عن دعمها وتأييدها لكل ما تراه يوميا من القتل والتدمير الممنهج لتصفية مليوني مواطن من الفلسطينيين أو إجبارهم على الرحيل عن أول أشبار حرروها من وطنهم بمقاومتهم وتضحياتهم قبل 17 سنة، وكانت كل دول العالم الغربي تشجع جيش الاحتلال المهزوم على الانتقام بكل ما تستطيع طائراته القيام بقصفه وكأنها في نزهة لأن قطاع غزة لا يملك جيشا كبيراً وتحصينات ودفاعات جوية يدافع بها عن أطفاله ونسائه، ورأى الشعب الفلسطيني والأمة العربية كلها أن هزيمة جيش الاحتلال في 7 تشرين الأول وأسر مئات من جنوده والمستوطنين وتكبيده خسائر بشرية تسببت بفقدان توازن رئيس حكومته بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت وقائد جيشه هرتسي هليفي وهم أصحاب القرار في حماية هذا الكيان.
فقد اعترف قائد الجيش بمسؤوليته عن الهزيمة حين فاجأتهم مجموعات الفدائيين بتدمير سياجهم المحصن وباقتحامهم لمواقعه ومستوطناته بأقدامهم مدججين بالسلاح وفي تلك اللحظة قام رؤساء الدول الاستعمارية الكبرى التي صنعت هذا الكيان على أرض فلسطين منذ عام 1920 وهي بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة بزيارة الكيان أمام العالم وأثناء ارتكاب مذابحه ضد المدنيين لكي يطمئنوا المستوطنين فيه بأن هذه الدول الكبرى جاء رؤساؤها لإعادة التوازن والثقة التي تزعزعت بين الجيش والمستوطنين، فقد خشيت هذه القوى من أن يبدأ الكيان بالانهيار تدريجيا وتتسع جبهات القتال ضده وتزداد دوافع المستوطنين بالرحيل عنه إلى أوطانهم بعد أن عجز عن حمايتهم وأصبحوا يفضلون الرحيل عن المستوطنات التي سيطرت على طرقها مجموعات الفدائيين وأمطرتها المقاومة بالصواريخ.
هذه هي الأسباب الرئيسة التي دفعت هؤلاء الرؤساء إلى زيارة حكومة الكيان ومشاركتها في جلسات اتخاذ القرار وإرسال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن لحاملات الطائرات لطمأنة جيش الاحتلال بوجود قوات أميركية إلى جانبه ولمنع المستوطنين من الرحيل بعد انتقالهم من المستوطنات في الجنوب إلى مدن الوسط. وعلى الجبهات الإعلامية الاستعمارية ازدادت الحملات التي حولت أطفال ونساء فلسطين إلى إرهابيين وتلك التي تدعو إلى عدم التوقف عن قتلهم وكثفت الدول الأوروبية الاستعمارية التاريخية فرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة قمعها لكل فرد يخرج إلى الشارع للتعاطف مع الضحايا الفلسطينيين ويطالب بإيقاف المذابح حتى لو رفع علما فلسطينيا.
والسؤال الذي تجب الإجابة عنه هو لماذا كل هذا الاندفاع الغربي لحماية الكيان هل بسبب دوره الوظيفي في خدمة هذه القوى الاستعمارية وعدم خسارة الاستعمار لهذا الدور فقط؟ يبدو أن هناك سبباً بعيد المدى أحس الاستعمار بخطورته على نظامه الاستعماري الذي فرضه منذ قرن وهذا السبب منع زوال أقدم قاعدة استعمارية استيطانية أنشأها الاستعمار وما تزال باقية بعد زوال عدد من مثيلاها في إفريقيا مثل «روديسيا– زيمبابوي» وجنوب إفريقيا وناميبيا وزامبيا الدول التي انتصرت وفر منها الأوروبيون المستوطنون ولم تبق غير «إسرائيل» كياناً يضم مستوطنين أوروبيين في قلب عالم عربي وإسلامي منذ قرن، فهزيمة الكيان تصبح هزيمة لكل دول الاستعمار التاريخية منذ بداية القرن الماضي وآخر بقايا الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في العالم فالملايين الستة من المستوطنين هم أوروبيون بغض النظر عن استغلال دينهم اليهودي فبريطانيا بدأت بنقلهم كمستوطنين في الوقت نفسه الذي نقلت فيه أوروبيين إلى إفريقيا وبالوقت نفسه الذي وافقوا فيها على نقلهم إلى أوغندا ثم غيرت بريطانيا المكان إلى فلسطين، ولذلك قالت عنهم في نيسان الماضي رئيسة الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين الألمانية حين زارت الكيان الصهيوني لتهنئته بمناسبة مرور 75 عاماً على تأسيسه على جثث الفلسطينيين في عام 1948 واغتصاب وطنهم قائلة للإسرائيليين: «نحتفل اليوم معكم بمرور 75 سنة حققتم فيها إشعاعاً ديمقراطياً في قلب الشرق الأوسط 75 سنة من الديناميكية والإبداع والابتكارات العظيمة»، 75 عاماً من المذابح والحروب على الشعب الفلسطيني وكل الشعوب المجاورة لمصلحة الدول الاستعمارية، وكانت فون دير لاين قد تلقت مذكرة احتجاج بتوقيع أكثر من ألف من موظفي الاتحاد الأوروبي الذين ينتقدونها حين أعلنت في زيارتها للكيان في الأسبوع الأول من معركة «طوفان الأقصى» أنها باسم الاتحاد الأوروبي تؤكد لحكومة الكيان الدعم غير المشروط لكل ما يقوم به الجيش الإسرائيلي، فهزيمة الكيان هي هزيمة لآخر أشكال الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في العالم.