قضايا وآراء

فلسطين بين الرواية الدينية ورواية الصمود.. إما الواقعية أو الانتحار!

| فراس عزيز ديب

قُطعت الاتصالات عن غزة، صمت العالم الحر عن كل ما ينتظر الأبرياء من دمارٍ ومجازر وبدأت الشعوب العربية بالاستنجاد برجل الأعمال الأميركي «إيلون ماسك» لمنح القطاع ميزةَ الإنترنت الفضائي على الطريقة الأوكرانية، لكننا ساذجون عندما نتوسل الجلاد! إلا أن كان هناك من يظن بأن رأس المال الجبان سيغرد خارج سربِ الرأسمالية المتوحشة، صمت الجميع إلا دماء الأطفال والنساء الذين لم يبق لهم ولنا إلا لله! وبدأت التساؤلات والتحليلات: هل بدأ الغزو البري أم لم يبدأ؟

حقيقة الأمر لا أحد يعرِف ما الذي سيغيرهُ هذا البدء من عدمهِ، هذا الانتظار أشبهَ بمن ينتظر نجاحَ عمليةِ بتر ساقٍ متعفنة لرجلٍ ميت، لسنا في حربٍ تقليدية يجري فيها احتساب النقاط بعدد المناطق المحتلة أو المحررة على طريقةِ الحرب الروسية- الأوكرانية، هنا قد نتفهم وجهة النظر التي تقول إن هذا الغزو تحصيلَ حاصلٍ للكيان الإسرائيلي لكونه فعلَ كلَّ ما يشاء من مجازر ولكونه من دون ضمانات في النتائج، بعض الإعلام الغربي ولكي يقلل من الضغط المعنوي على ربيبه شبّه الحالة بالغزو الأميركي لأفغانستان، وكيف اضطرت القوات الأميركية للخروج بعدَ أن دمرت البلد ونهبته، ربما هم يدركونَ أن هذا التشبيه ليسَ بريئاً، بل هو استمرار في نهج بناء «المقاومفوبيا» إن جازَ التعبير التي تتبنى فكرة دمج المقاومة بالإرهاب، لكن هؤلاء تجاهلوا أن الكيان الصهيوني هو من رفع سقف التوقعات والأهداف، القضاء على المقاومة، تحرير المخطوفين وتهجير الشعب الفلسطيني من جديد، وأي انتهاء للمعركة من دون تحقيق هذه الأهداف هو بمنزلة هزيمة، بالسياق ذاته قد نتفهم وجهة نظرٍ ثانية تقول إن المعركة البرية ضرورية للمقاومة التي تريد استنساخَ تجربة حزب اللـه في لبنان خلال حرب عام 2006 عندما نجح بإذلال هيبة الجيش الإسرائيلي عبرَ المواجهة البرية المباشرة لدرجةّ دفعت أحد القادة الميدانيين في الحزب خلال الحرب للقول: «لو أردنا أسر عشرات الجنود لتمكنا من ذلك، بس شو بدنا نساوي فيهم!»، كلا الطرفين يرى في المواجهة البرية تثبيتاً لانتصارٍ ما، لكنه بالوقت ذاته قد يكون قص شريطاً لهزيمةٍ لا يقوى كلاهما على تقبلها، بين هذا الخيار وذاك دعونا نعترف بأن المعركة البرية من عدمها تبدو تحصيل حاصل قياساً بما يجري من حولنا والذي لا يبدو في الإطار العام لمصلحتنا ما لم تحدث معجزة ما، منذُ اليوم الأول قلنا إن قراءة المتغيرات يجب أن تكون متأنية بعيداً عن العواطف، لكن من الواضح أن هناك من ما زال يخلط بين الحرب النفسية وبين وهم القوة ولكي تتضح الصورة أكثر دعونا نأخذ المتغيرات بمستويين:

المستوى الأول: التعاطف وكسب النقاط شعبياً

قبل أسبوعين قلت في زاويتي بأنها «المعركة الأخيرة حذارِ من الخذلان!» أحد القرَّاء سألني: لماذا الإصرار على فكرة أنها الحرب الأخيرة؟ هل اقتربت نهاية العالم؟

من الواضح أن صاحب هذا التساؤل ينطلق بسؤالهِ من الروايةِ الدينية المعروفة التي ترى بتحريرِ فلسطين علامة من علاماتِ يوم القيامة وإلى ما هنالك من القصص والروايات التي يسردها بعض من يظنون أن اللـه لم يهدِ سواهم بطريقةٍ يبدو معها تحرير فلسطين أشبه بفيلمٍ سينمائي شاهدهُ من قبل ويقصه لنا، لكنني أقول -وإن كان هذا الكلام لا يُعجب كثر- إن أكبرَ عدوٍّ للقضيةِ الفلسطينية هو تأطيرها في رواية دينية محددة، أنا لا أريد أن أسمع أن حجراً سيقول للمنقذ الآتِي من عند الرب هناك عدو خلفي، أنا أريد أن أرى حجارةَ فلسطين التي تتناثر كشظايا تقتل الأطفال والنساء وقد تحولت إلى دروع لتحميهم، لا تقل لي ماذا سيجري في المستقبل الذي لا تعرف ولا أعرف عنهُ شيئاً والمعركة جارية؟ هذا الإقحام غير المبرر لأعدل قضية إنسانية عرفها التاريخ بهذه المتاهات هو إساءة لهذه القضية، من ناحية ثانية فإن الإصرار على هذهِ الأدبيات سيخلق صراعاً من نوعٍ آخر، تُرى من هم رجال اللـه الذين سيحررون القدس؟

على الجهةِ المقابلة فإن الغرب الكاذب يعرف كيفَ يستغل أدق التفاصيل ليحاربنا بها، قبل أسبوع تحدثت برلمانية في البرلمان الأوروبي حديثاً يحض على المذهبية والكره يخجل منهُ حتى يوسف القرضاوي عندما أفتى بجواز قتل ثلث الشعب السوري ليحيا الثلثان، المسؤولة الأوروبية اعتبرت أن كل ما قامت بهِ المقاومة الفلسطينية وكل ما يقوم بهِ من يدعم الفلسطينيين هو من أجل قتل اليهود، إبادة اليهود، كررت كلمة يهود أكثر مما كررت كلمات في السياسة، لا ندري ربما من أفهمَ هذهِ المريضة نفسياُ بأن المشكلة بين المسلمين واليهود، فلا المقاومة مع محبتنا لها تختصر المسلمين في هذا العالم ولا الكيان الغاصب يمثل اليهود، والدليل على ذلك هي التظاهرات الحاشدة التي قام بها يهود في جميع أنحاء العالم ضد الحرب الصهيونية في غزة، اليهودي لا يمكن له أن يكون عدوي ما دام هو أخي في الإنسانية، الصهيوني هو عدوي ما دام يراني إنساناً درجة ثانية لستُ من شعب اللـه المختار صاحب أرض الميعاد، هذه المقاربة تصلح لجميع الأديان، فمثلاً لا يمكن لمتأسلم أن يكونَ أخي في الإنسانية ما دام لا يراني من الفرقة الناجية! هذه المقاربة الصهيونية للحرب تستند للأسف إلى الكثير من عثراتنا التي نراها عادية وفي الحقيقة هي تبدل جوهر الصراع بل إن هذه المغالطات أفقدتنا الكثير من النقاط، فمثلاً عندما كانت التظاهرات الحاشدة ليهود أميركيين تطالب بوقفِ الإجرام الصهيوني في غزة، كان هناك على قنواتٍ إخبارية بمسمى متحدث باسم هذه الحركة أو تلك يتوعد اليهود!

المستوى الثاني: الدعم العسكري والسياسي للكيان ليس مزحة!

منذُ اليوم الأول للمعركة ونحن نسمع السؤال المكرر: إذا كان كل ما يجري ليسَ مبرراً لفتح جميعِ الجبهات، إذاً متى ستُفتح؟

تبدو أسئلة كهذه سلاحاً ذا حدين لأنك ستقع بين مطرقة من سيتهمك بعدمِ إدراك خطورة المرحلة وسندان من سيتهمك بالتنظير، أنا لا هذا ولا ذاك، لا أدعي أي خبرة عسكرية لكني ببساطة أستطيع أن أحلِّل ردات فعل العدو وبمعنى آخر:

لا يبدو أن كل ما يصل من سلاح ودعم للكيان الصهيوني منذ هزيمة السابع من تشرين الأول الجاري هو سلاح لتأديب «حماس»، البعض بدأ يتحدث فعلياً عن موافقة «البنتاغون» على إخراج أخطر أنواع الأسلحة الكيميائية المتعلقة بتخدير من يقوم باستنشاقها لتنفيذ عمليات استئصال محددة، بعض التقارير ذهبت أبعد من ذلك للقول إن الولايات المتحدة لا يمكن أن تسمح بخروج هذا السلاح من دون رقابةٍ صارمة تتمثل بقيام قوات كوماندوس أميركية مدربة على نوع كهذا من العمليات لتقوم هي نفسها بهذه العملية، حتى إن مسؤولاً أميركياً اضطر للتعليق على وصول جنود أميركيين بالقول: لم نرسلهم للمشاركة في القتال! وهل ننتظر منه أن يعترف؟!

في سياق متصل يبدو أن دخول القنابل المخصصة باقتحام التحصينات الأرضية المعركة هو سياق متتابع لنظرة العدو لهذه المعركة وهي القنابل التي تم استخدامها عشية قطع الاتصالات عن غزة قبل أول من أمس وسُمع صدى انفجاراتها لأكثر من ثلاثين كيلو متراً، هذا في العسكر أما في السياسة فلا يبدو الأمر مختلفاً، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يريد تحالفاً دولياً على شاكلةِ التحالف ضد تنظيم داعش والذي كان ذريعة لاحتلال أراضٍ سورية وعراقية تمثل منطقة ثروات نفطية مهمة، هناك من سيخرج ليقول إن تطوراً كهذا لا يمكن مروره عبرَ مجلس الأمن بسبب التربص الروسي- الصيني، لكن من قالَ أساساً إن هؤلاء- إن قرروا- سينتظرون قراراً من مجلس الأمن؟ هل اعترفوا بالمنظمات الدولية عندما قرروا غزو العراق وسورية؟! ألم يطالبوا كل مسؤول أممي أظهرَ مجردَ التعاطف مع ضحايا غزة بالاستقالة؟ هذا المشروع يسير بهدوء وليس علينا التقليل منه أو اعتبار أن كلام ماكرون لا يؤخذ به، هو كذلك فعلياً لكن ليسَ عندما يتعلق الأمر بخدمةِ الكيان الإسرائيلي والسياسات الأميركية في المنطقة، عندها سيغدو ماكرون أكثر من مجردَ رئيس لفرنسا بل ربما أن الحسنة الوحيدة التي تبدو من خلال هذا التشابك هي السؤال الجوهري الذي سيختصر لنا رؤية ما هو قادم:

هل المعركة في غزة هي جزء من ولادة النظام العالمي الجديد؟ إذا كان العدو يجهز أدوات المعركة القادمة، فما الذي نقوم بتجهيزه نحن؟ هنا السؤال بعيد عن العواطف، ولذلك قلنا إنها المعركة الأخيرة لأن ما يريده العدو أبعدَ بكثير من مجردِ استكمال السيطرة على ما تبقى من فلسطين المحتلة! هناك من لا يريد أن تقوم لهذهِ الأمة قائمة لعقودٍ قادمة لا أكثر ولا أقل!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن