ناجي العلي… الفنان الذي قتلته ريشته ورسوماته … 40 ألف رسم كاريكاتيري باتت رمزاً لفلسطين
| مصعب أيوب
على الرغم من أن رسوماته باتت في صفحات الذاكرة ومضى على عرضها وتقديمها عقود كثيرة، ولاسيما أن ذكرى وفاته السادسة والثلاثين قد مرت منذ شهرين تقريباً، إلا أنها تعود في كل مرة تتجدد فيها الاشتباكات والمواجهات بين المقاومة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي ويعتمدها المحتجون والمتظاهرون في كل بلدان العالم ويجدد الناس عهدهم بمحبة صاحبها الفنان الفلسطيني ناجي العلي.
في كل زمان ومكان
وقد سَجلت أعماله إدانة واضحة وانتقاداً شجاعاً بطريقة خاصة فيها من السخرية الشيء الكثير توجه فيها إلى صلب المواضيع وعمقها وابتعد عن الاستسهال والابتذال، ولعل ما ساعده في اكتشاف ذلك هي حالة الحراك والتبدلات السياسية والعالمية والأوضاع العامة في المنقطة، علاوةً على أن الكثير من أعماله تجاوزت حدود الزمان والمكان لتؤدي دورها بشكل فعال في أي وقت وزمان وهو ما نعاينه اليوم بأعيننا في مواقع التواصل الاجتماعي والوقفات التضامنية والداعمة للقضية الفلسطينية بعد القصف الإسرائيلي الذي ردت فيه قوات الاحتلال على عملية «طوفان الأقصى».
فتعود لوحات العلي ورسوماته مع كل حدث سياسي وتغير إقليمي أو عالمي، ولعل أبرز العبارات التي تناقلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً «أخشى أن يأتي زمان تعتبر فيه الخيانة وجهة نظر».
حنظلة المستاء
«عزيزي القارئ، اسمح لي أن أقدّم لك نفسي، اسمي حنظلة، اسم أبي مش ضروري، وأمي اسمها نكبة، وأختي الصّغيرة….. نمرة رجلي ما بعرف لأني دائماً حافي، ولدت في 5حزيران 67، جنسيتي مش فلسطيني، مش أردني، مش كويتي، مش لبناني، مش حدا، باختصار ما معي هوية ولا ناوي أتجنس… محسوبك عربي وبس»، بهذه الكلمات يعرف رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي شخصيته الكاريكاتيرية «حنظلة».
شخصية «حنظلة» التي ابتكرها العلي أصبحت بصمة متفردة به، فهي شخصية كرتونية باتت علامة ثابتة في معظم أعماله ومن خلالها نهج إلى انتقاد الاحتلال وتجاوزاته وانتهاكاته وتهاون بعض الحكام والدول مع قضية العرب المحورية، علاوةً على أنها كانت أحد أسباب تصاعد شهرته، ولعل الاسم يوحي بما ترمي إليه الشخصية، فهو جاء من نبات الحنظل المر ومن قسوة وصعوبة العيش والتهجير الذي عانته هذه الشخصية، فهو صبي يشاهد مأساة شعبه بأم عينه ويحاول أن يرقب كل ما يجري حوله، ثم إنه طفل شاهد عدل لا يكذب، وخاصةً في ظل غياب شهود العدل في العالم.
وابتكاره لشخصية (حنظلة) منبعه الذكاء والإحساس العالي والعميق والنظرة الفنية المتفردة، ولاسيما أنه يصور طفولة ناجي، وبالرغم من أن حنظلة من المفترض أنه طفل من بني البشر، إلا أن العلي أحاط رأسه بما يشبه الأشواك ليصبح كالقنفذ الذي يدافع عن نفسه بتلك الأشواك إضافة إلى أن القنفذ شديد الارتباط بالأرض.
متى يدير حنظلة وجهه؟
ولدت شخصية حنظلة المتخيلة في الخامس من حزيران 1967 في يوم الهزيمة العربية الكبرى أمام الكيان الصهيوني المحتل ويعتبر العلي حنظلة بمنزلة الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في كثير من مفاصل الدول العربية، وهو صبي في العاشرة من عمره يدير ظهره للقارئ بشكل دائم، كتّف ناجي يديه خلف ظهره بعد حرب تشرين 1973 لأنه كان يعتقد أن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع كبيرة، ولعل تكتيف اليدين دليل وبرهان على رفض الطفل المشاركة في حلول التسوية لأنه ثائر بالفطرة، وقد أخبر أن وجه حنظلة سيكشف للعلن عندما تعود الكرامة العربية ويسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته.
وقد حرص العلي على أن يبقى حنظلة ملازماً لكل رسوماته ليبقى يذكر نفسه بأصله لكي لا يتغير بعد السفر والشهرة، وبمرور الوقت فلا بد من التذكير بأنه ابن مخيم حافي القدمين فقير لم يهدأ ويهنأ له بال حتى يعود إلى وطنه، إضافة إلى الشخصيات الأساسية التي تتكرر في رسوماته، مثل فاطمة المرأة الفلسطينية التي لا تهادن ذات الرؤية الشديدة الواضحة فيما يخص قضيتها المحورية، وكذلك شخصية الرجل الثخين ذي المؤخرة العارية الذي لا أقدام له ممثلاً بالقيادات والخونة الانتهازيين، ولا ننسى شخصية الجندي الإسرائيلي طويل الأنف الذي يظل مرتبكاً أمام حجارة الأطفال.
هجرة وترحال
سار ناجي العلي بريشته سريعة الاشتعال والانفعال مع الأحداث المحورية التي عايشها متجاهلاً كل القيود وعابراً لجميع الحدود، فمنذ أن هاجر إلى جنوب لبنان برفقة أهله 1948 وتحديداً مخيم عين الحلوة وهو يتعرض للاعتقال من السلطات الصهيونية واللبنانية بسبب نشاطاته ورسوماته وسخريته من بعض الظواهر والمواضيع، فكان أن قضى أوقاتاً كثيرة في الزنزانة يرسم على الجدران، ولمصادفة ما فقد شاهد الأديب غسان كنفاني أحد أعمال ناجي في زيارة لمخيم عين الحلوة وكان أن نشرها في مجلة الحرية 1961، وهي تجسد خيمة تلوح من فوقها يد مبشرة بعودة العرب وتشير أيضاً إلى المعاناة.
وفي عام 1963 سافر إلى الكويت ليعمل محرراً ورساماً صحفياً في صحف عدة منها الطليعة والسياسة الكويتية والسفير اللبنانية والقبس الكويتية والقبس الدولية، وفي 1974 عاد إلى لبنان ليكون شاهداً على الحرب الأهلية والغزو الإسرائيلي، وفي 1982 عاد إلى الكويت للعمل بشكل دائم في القبس الكويتية ولكنه ما لبث أن استقر فيها، وبسبب الكثير من المضايقات الرقابية والتهديدات انتقل إلى لندن.
بساطة وبديهية
الكثير من رسامي الكاريكاتير عندهم وعي سياسي ونرى ذلك في رسوماتهم ولكن تشعر للحظة وكأنك تتلقى خطاباً سياسياً ثقيلاً، على حين أن المحتوى الذي قدمه العلي كان مرهفاً ولطيفاً وخفيف الظل، ولعل البساطة أحد أهم أسرار نجاحه وقوة انتشار رسوماته، فهي تصل في أحيان إلى حد السذاجة وتعبر عن ذاتها بذاتها ولا تحتاج ترجماناً وتكاد تصل إلى البديهة، وهي سذاجة بعيدة عن العبط تبسط أعقد الأمور والأفكار والمواقف وحتى الظواهر، فكان يحمل روحه على ريشته ويعرف أن أعداءه كثر وأن قلم الرصاص أشد حدة من السيف وأقوى وقعاً من صوت البارود.
نقد لاذع
أنتج ناجي العلي أكثر من أربعين ألف رسم كاريكاتيري، وهو يمثل جيلاً منكسراً ويعبر عن فئات مسحوقة كثيرة عانت القهر والذل إضافة إلى تجسيده لصورة الفلسطيني المهجّر قسراً عن أرضه ووطنه، وبات رمزاً للفلسطيني الذي فتكت فيه الكثير من الصعاب.
كما كان من يريد أن يعرف طبيعة السياسة الأميركية في المنطقة العربية بإمكانه متابعة أعمال ناجي العلي فكان البوصلة التي ترشد سياسة العرب والغرب في المنطقة، فكان عربياً أكثر من أن يكون فلسطينياً وبتلك الروح كان يرسم ويخاطب جمهوره.
تجرد ناجي من العواطف الملونة ولم يسمح لأحد أن يملي عليه شيئاً أو أن يأمره برسم موضوع معين، كما وجه ناجي نقده اللاذع لكثير من الفصائل من أبناء جلدته ممن انحرفت بوصلتهم عن طريق الحق التاريخي والمصيري، فتولد الكثير من الأعداء لناجي بسبب المسيرة الشائكة التي خطها لنفسه ولاسيما في مجتمعنا العربي الذي لا يقبل النقد أبداً، كما تلقى تهديدات كثيرة من جهات عليا عدة وكانت ردة فعله ساخرة بالطبع حيث أوضح أنه وإن كُبلت يداه فيمكنه أن يرسم بأقدامه.
اغتيال غادر
لم يتوقف ناجي العلي عن عمله لأنه أكبر من مهنة بل رسالة وسلاح يرفعه بوجه كل من يحاول التفريط بالحقوق الفلسطينية، ولأن ريشته لم تعرف الضعف والانحناء فقد اغتيل في لندن وهو في طريقه إلى مكتب صحيفة القبس الدولية بمسدس كاتم للصوت الذي طالما هاجمه وحاربه في أعماله، وقد دفن في مقبرة «بروك رود» في بريطانيا بسبب صعوبة تحقيق وصيته بأن يدفن في عين الحلوة بجانب والده، وتجنباً لأن تتحول جنازته إلى ثورة وتجر وراءها الكثير من الويلات، فكان أن غادرنا جسده الضعيف النحيل وبقيت بطولاته وشجاعة ريشته وألوانه إلى الأبد بأشهر شخصية في لوحاته ورسوماته التي عاشت وستعيش للأبد «حنظلة».
ويبقى السؤال قائماً… من الذي أمر بقتل ناجي العلي ولماذا إلى اليوم لم يتم تحديد هوية الفاعل؟