قد تكون الصورة التي نقلتها عشرات الفضائيات، ومعها الآلاف من الناشطين الذي راحوا يبثون مقاطع ترصد وقائع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي باتت سلوكياته كاشفة بدرجة لا لبس فيها لحجم «الوجع» الذي أصاب نسج الكيان الثلاث «السياسية والعسكرية والأمنية»، نقول قد تكون تلك الصورة متمحورة بدرجة كبيرة حول رصد «الخسائر» المتراكمة على ضفة «القطاع» الذي يخوض، من دون شك، معركة غير متكافئة بكل المقاييس مع كيان قام أصلاً كمؤسسة عسكرية بنت من حولها مجتمعاً وليس العكس، وهي، أي تلك المؤسسة، لا تزال تحتفظ بـ«حبل مشيمتها» الذي يربطها بالرحم الغربي الذي أبدى، منذ 7 الشهر الجاري الجاري، ميلاً لتدعيم ذلك « الحبل» بشتى صنوف الدعم بدرجة أوحت بوجود شعور لديه، أي لدى الغرب، بأن جهوداً تواصلت على امتداد 75 عاماً باتت تباشيرها تقول إن ما جمعته الرياح سوف تذروه العاصفة.
سجل «الخسائر في القطاع» يبدأ عند نحو ثمانية آلاف شهيد ونحو عشرين ألف جريح، ثم يمر برقم نزوح سجل نحو مليون ونصف المليون، وهو لا ينتهي عند تدمير ما يزيد على مئة ألف منزل حيث سيترافق الفعل بتدمير شبه تام لمجمل البنية التحتية في القطاع وفقاً للتوصيف الذي استخدمته الأمم المتحدة، مع الإشارة إلى أن كل الأرقام السابقة ستكون بحاجة إلى «تحديث» عندما ستحين لحظة نشر هذه المقالة، ومن المؤكد هو أن المعطيات السابقة تقود نحو رسم واقع كارثي يهدد جغرافيا القطاع، وديموغرافيته، بالزوال تماماً على الرغم من الصلابة التي أبداها شعبه والتي ظهرت من خلال رفضهم المناشير التي راحت تلقيها الطائرات الإسرائيلية داعية السكان للنزوح إلى «مناطق آمنة» كانت قد حددتها، تلك المناشير، بجنوب القطاع، لكن الصورة، ولكي تكون أكثر واقعية، أو هي راصدة لتداعيات «الطوفان» على ضفتيه، يصبح لزاماً علينا الإضاءة على ما تركه هذا الأخير على ضفاف كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي وإن لم يكن حجم التدمير الحاصل فيه قريباً من الأرقام السابقة، لكن ثمة خسائر كبرى قد أصابته هو الآخر، وإن كانت هذه الأخيرة من النوع الذي سيحتاج إلى وقت لكي تتبلور باتجاه معطيات سياسية ستفضي، من دون شك، نحو بلورة نظائر لها ذات طابع بنيوي يطول أركان الوجود ومعها ركائز وأثمان البقاء.
تقول أرقام الخسائر المعلنة على ضفاف معسكر الاحتلال، بأن عديد القتلى تجاوز 1200 فيما عديد الجرحى يتجاوز ضعفي هذا الرقم، والأسرى هم بين 200-250، ومن المؤكد أن هذه الأرقام تشكل لوحة سوداء لكيان تولي إستراتيجيته أهمية قصوى للعنصر البشري انطلاقاً من أن «التعويض» هنا يبدو شديد الصعوبة بعكس نظيره في المعدات والعتاد التي يسهل تعويضها بفعل «حبل المشيمة» آنف الذكر، وفي مقلب آخر تقول التقارير إن الاقتصاد الإسرائيلي بات يعاني من حالة شلل جزئية بفعل تداعيات الحرب باتجاهات شتى، فالمزارع المحيطة بغلاف غزة تنتج ما يقرب من ثلث منتوجات الكيان الزراعية التي باتت خارج الخدمة ولأمد يصعب تحديد آجاله، في الوقت الذي سيشكل فيه 125 ألف مستوطن نزحوا من محيط غزة، وكذا من مستوطنات محاذية للحدود مع لبنان، عبئاً اقتصادياً كبيراً ناهيك عن أعباء أخرى لهم ذات علاقة بأبعاد أمنية، ومن المؤكد أن كلا الفعلين سوف تزداد مفاعيلهما كلما طال أمد الحرب، تقول التقارير الاقتصادية إن «الشيكل» فقد 30% من قيمته بعد 17 يوماً على بدء الحرب، والبورصة تهاوت أسهمها لدرجة غير مسبوقة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، هذا في المعلن، أما في سياق المخفي فيمكن الإشارة إلى تقارير غربية تحتوي على سرديات ذات مغزى بنيوي من نوع حالات هروب لمئات جنود الاحتلال وانتحار آخرين ما يشير إلى تردي الحالة المعنوية داخل الجيش الإسرائيلي الأمر الذي يمكن تلمسه أيضاً في سعي القيادتين السياسية والعسكرية لكيان الاحتلال للقيام بعشرات الزيارات لمواقع وثكنات بغية رفع الحالة المعنوية على امتداد الأيام التي أعقبت انطلاقة الحرب.
تشي العملية العسكرية المحدودة التي شنتها قوات الاحتلال على شمال القطاع مساء يوم الجمعة الماضي إلى أن قادة الكيان «يتهيبون» الحرب، ولذا فإنهم اختاروا أن يكون الهجوم عبر موجات متلاحقة ستكون تطوراتها محكومة بالنتائج التي يمكن استخلاصها من سابقاتها، والراجح، والحال هذه، أن تستمر عملية التعاطي تلك لوقت طويل تجنباً لخسائر كبيرة يمكن لها أن تكون ذات تداعيات أشد خطورة، وتجنباً لفشل سيكون، فيما لو حصل، انعطافاً في مسار كيان يستند في بقائه إلى دوره الوظيفي كـ«عصا» يستطيع الغرب من خلالها السيطرة على مقدرات المنطقة ومحاولات نهوضها.
يقول الجنرال الهندي «مانيكشو» الذي قاد قوات بلاده للنصر على القوات الباكستانية في الحرب التي اندلعت بين الطرفين عام 1971 «عندما كنت أسمع عن أنباء سيئة من الجبهة أثناء الحرب كنت أقول لنفسي: ليكن إنها الأسوأ على الجانب الآخر».
من المؤكد أن الصورة المرتسمة على ضفاف قطاع غزة تبدو سوداوية بدرجة كبيرة، لكن المؤكد أيضاً أن نظيرتها المرتسمة على ضفاف كيان الاحتلال ليست وردية، بل يمكن الجزم أنها لا تقل سوداوية عن الأولى، وإن كانت «السوداوية» الأخيرة من النوع الذي سيحتاج إلى وقت لكي يتبلور «سوادها» بشكل جلي.