أغاني شعبية فلسطينية بروح المقاومة … «الترويدة» و«المولالاة» .. أغنيات تحدت قضبان الاحتلال
| مايا سلامي
منذ عقود طويلة تعاقب المحتلون على أرض فلسطين الحبيبة الذين جاؤوها من كل حدب وصوب طمعاً بطيب ترابها المقدس الذي انبثقت عنه أعظم الحضارات وكان بيتاً ومهداً لأنبل الرسل السماوية.
فمن الاحتلال العثماني ثم الانتداب البريطاني وصولاً إلى الاحتلال الصهيوني تنوعت أشكال الاستعمار وأساليبه القمعية والوحشية التي لاقت في كل حقبة جيشاً كبيراً من المجاهدين والمناضلين الذين ضحوا بدمائهم في سبيل كرامة وطنهم، كما برز بقوة دور النساء الفلسطينيات اللواتي شاركن أيضاً بعمليات المقاومة، فحرسن وطنهن بأصواتهن التي نقلت الرسائل والتحذيرات إلى الثوار والأسرى عن طريق الأغنيات المشفرة «الترويدة» أو «المولالاة» التي أبدعن فيها وحولنها إلى وسيلة تواصل مع ذويهم في سجون الاحتلال البريطاني أولاً ثم الإسرائيلي، حتى غدت تلك الأغنيات جزءاً لا يتجزأ من المقاومة الفلسطينية.
أصل الأغنيات
نشأت أغنيات «الترويدة» ضمن قوالب الغناء الفلكلوري النسوي القروي الذي كان متوارثاً في فلسطين منذ القدم إلى وقت قريب وقد استمدت اسمها «المولالاة» من زيادة حرف اللام إلى الأغنية.
وقد امتازت مناطق وسط وجنوب فلسطين المتلازمة مع مناطق انتشار الفلكلور السامر بهذا الأسلوب الغنائي الجماعي الذي ينضوي تحت ما يعرف بـ«الدحاريج» و«التراويد»، ويؤدى بطريقة جماعية من خلال التناوب بين فريقين يصطفان متقابلين ويتبادلان الشعر غير الملحن، والترويدة عموماً هي نوع من الغناء البطيء الذي يحكمه إيقاع معين يعتمد على الإلقاء بدرجة أساسية، الإلقاء المنغم الذي يحمل موسيقاه الخاصة حيث يعتقد أن الترويدة لم تكن تؤدى قديماً بصحبة أي آلة موسيقية لأن النساء كن في الغالب يغنينها بشكل جماعي فيخلق الإيقاع عبر أصواتهن.
دورها في المقاومة
بدأ الأمر خلال فترة الاحتلال العثماني، حين امتهنت الترويدة- والملالاة تحديداً- وظيفة سياسية. عملت النساء على تشفير الكلمات لإيصال رسائل سرية إلى الأسرى، حين يذهبن لزيارتهم في السجون، وإلى المقاومين في الأماكن التي كانوا يختبئون بها.
كانت النساء حلقة الوصل بين الأسرى والمقاومين، ومن خلالهن، كان يُدرك المعتقلون ما الذي يجري في الخارج وما ينتظرهم. كانت النساء يؤلفن شعراً يحتوي على رموز تتضمن تفاصيل عمليات الفداء وأبرز الأخبار، بطريقةٍ مشفرة لا يمكن للعدو أن يفهمها.
ولم يكن التشفير بالأمر السهل أبداً، إذ اعتمد معظمهن على إضافة حرف «اللام» وتكراره داخل كل كلمة تقريباً، مع اختلاف تشكيل الحرف من كلمةٍ إلى أخرى، وأحياناً كان بعضهن يلجأن إلى قلب الحرف الأخير للكلمة.
وفي الواقع كانت المرأة الفلسطينية تعمل على تأليف الكلام الذي تريد من خلاله إيصال رسالتها، ثم تحبك معانيه، وبعد ذلك تعمل على إعادة صياغته وإضافة التشفير اللازم حتى لا يفهمه الحراس، وكان كلّ ذلك يتم مع الحفاظ على وزن اللحن وإيقاعه، وابتداع الشعر المناسب له، حتى تحافظ على شكل الترويدة الفنية.
انتقل أسلوب المولالاة إلى فترة الاحتلال البريطاني، وتحديداً مع بداية الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، حين عمد الاحتلال إلى قطع كل أساليب التواصل بين الثوار وأهاليهم في القرى ومحيطه، عندئذٍ لجأت النساء مجدداً إلى المولالاة لإيصال الأخبار إلى الثوار ولتبشير المعتقلين في سجون الاحتلال باقتراب خلاصهم فكانوا يشفرون الكلمات حتى لا يفهمها المستعمر الذي قد يعرف القليل من العربية.
وقد استمر التعامل بتلك الشيفرة حتى بعد النكبة، وإلى اليوم يوجد الكثير من سكان المخيمات الذين ما زالوا يجيدون الحديث بتلك اللغة بطلاقة.
يا طالعين الجبل
تعد ترويدة «يا طالعين الجبل» من أشهر تلك الأغنيات التي وثقت واقعة تحرير بعض الفدائيين من الأسر في منتصف الثلاثينيات وتعتمد في بنيتها على التكوين السابق نفسه بإضافة حرف اللام للتمويه. وفي هذه الأغنية أخبرت النسوة «المحبوس» أن «الغزال» أي الفدائيين سيأتون في الليل لتحريرهم وأن إشارة بدء العملية هي عندما يرون النار موقدة حتى يفهم الأسرى الرسالة وينتظروا تحريرهم. وتقول كلماتها:
يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار
بين لللل يامان يامان عين للل هنا يا روح
ما بدي منكي لللكم خلعة ولا لالالا لابدي ملبوس
إلّا غزال للللذي جوين الللكم محبوس
إلّا غزال للللذي جوّين الللكم ما يدوم
ترويدة الشمالي
وكما كانت المرأة الفلسطينية تقوم بتشفير أغنيات المقاومة والثورة، كانت تشفر كذلك أغنيات الحب والشوق حتى يتسنى لها التعبير عن مشاعرها بشكلٍ مموّه خوفاً من افتضاح أمرها أمام الحراس، ثم أصبحن يغنين هذه الكلمات في جلساتهن أو أثناء العمل وحتى في الأعراس. ومن أشهر هذه المولالاة كانت «ترويدة الشمالي» التي تقول:
وأنا ليليلبعث معليلريح الشمالي لالي يا رويللووو (وأنا الليلة لبعث مع الريح الشمالي)
ياصليلار ويدورليللي على لحبيليلابا يا رويللووو (يوصل ويدور على الحباب يابا)
يا هللوا روح سلللملي على للهم يا رويللووووو (يا هوا روح سلملي عليهم)
وطالالالت الغربة الليلة واشتقنا ليلي للهم يا رويللوووو (وطالت الغربة واشتقنا لهم)
يا طيرلرش روح للي للحباب واصلللهم يا رويللوووو (يا طير روح للأحباب ووصل لهم)