ثقافة وفن

الحكاية الخرافية وضررها..! ما الغاية من الإساءة للعلماء الذين نحبهم ونجلهم؟

| إسماعيل مروة

تختلف الأساطير عن الخرافات اختلافاً جوهرياً وعلمياً، فالأساطير ذات أصل يمكن للخيال أن يتحرك فيها كيفما شاء، أما الخرافة فلا أصل لها، وهي محض خيال، ومن هنا عدّ كثيرون أن أغلب القصص المعروفة هي أساطير، لأنها خارقة للمألوف، واعتمدوا في ذلك على سند قرآني لا لبس فيه (أساطير الأولين).. فالخلق والأنبياء والحوادث في خطوطها العريضة وقعت، ولكن الخطوط التفصيلية هي التي تكون محطّ خلاف بين الناس، وتخضع للزيادة والنقصان.

والأساطير لا تقف عند زمن معين، في حين كان يجب أن تتوقف، وخاصة مع وجود الكتابة والتدوين، واليوم وسائل التواصل الاجتماعي تنقل الأمور لحظياً، ولكن العجب لا ينقضي عندما نجد أن وسائل التواصل الاجتماعي تسهم في نشر خرافات لا أساس لها من الصحة، وليس الأساطير وحسب! والطريف الغريب المؤلم نسبة هذه الروايات إلى أناس ثقات من دون تسميتهم، فنقرأ: منقول.. أخبرني أحد أساتذتي.. قاله أستاذ جليل.. فما دام هذا الأمر بهذه الخطورة والمكانة، لماذا لا نفصح عن اسم المتحدث؟ ولماذا تنسج الخرافات حول شخصيات علمية جليلة؟ وما المقصود من بثّ هذه الخرافات؟ ولمن تسيء هذه الروايات؟ ولماذا نقوم بوضع الناس الأجلاء في مواقع المتخاصمين؟ إلى أي مدى يعمق الكره؟ والسؤال الأكثر أهمية: هل نطرب بقصص الخرافة رغم إساءتها وهي تقصم الناس إلى صالح وخبيث؟

الأستاذ أحمد راتب النفاخ مثالاً

لم أدرس على يدي الأستاذ النفاخ، فحين جئت إلى الجامعة طالباً كان قد غادرها، وخلد إلى التقاعد والعمل المجمعي، ولكنني كنت أسمع عنه الكثير من الأخبار والأحاديث التي تتجاوز حد الخرافة، ومن أسف شديد أكثر هذه القصص تتعلق بالحياة، وأنا لن أذكر حادثة أو قصة منها، لأنني لم أقتنع بأي واحدة منها، والذين يروون هذه القصص يقولون: قال لنا أستاذنا النفاخ…! ولكن بعد دخولي إلى جامعة دمشق والتدريس، اكتشفت أن أغلب هؤلاء الذين يتحدثون باسم الأستاذ لم يكونوا على تواصل منتظم معه، إضافة إلى أنهم ليسوا محل ثقة! فماذا عن القصص الخرافية التي كانوا يروونها عنه رحمه الله؟

وأسأل أنا الحيادي الذي لم يتتلمذ على يديه: كم خسر طلاب العلوم العربية بسبب هذه الخرافات؟ كم خاف بعضهم ولم يتواصل مع الأستاذ الجليل بناء على خرافاتهم؟ كم خسرنا من العلوم التي يكتنزها في صدره بعدم انتقالها إلى الآخرين؟ هل أراد هؤلاء أن يقولوا أمراً بحق الأستاذ لإبعاد الطلاب عنه؟ كم مِنْ علاقات أفسدوها بين الأستاذ وزملائه وأحبابه وأقرانه، حين خلطوا بين رأيه العلمي والشخصي؟

لم يكن كما صوروه!

قلت: لم أتتلمذ على يديه وخسرت الكثير من العلم والتجويد، وأنا الذي قرأت محاضراته في الأدب مكتوبة بخط أخي الراحل حسن وقد كان طالباً له، وقرأت ديوان ابن الدمينة الذي كان جزءاً من رسالة الماجستير، وقرأت عنه إشادات من العلماء التراثيين الأجلاء، لكن القدر ساقني للقائه ثلاث مرات: المرة الأولى بصحبة صديقه الشاعر الفلسطيني حسن البحيري، وكانت جلسة هادئة، لم يتحدث فيها الأستاذ عن واحد، وكان مضيافاً وودوداً، ليأتي من يخبرني بعد يومين بألا أكرر الزيارة لأن الأستاذ لم يحبني، فتوجست وابتعدت، إلى أن صحبني الشاعر البحيري مرة أخرى وطلب مني ألا ألتفت إلى كلام الذين حوله، فهو، أي الأستاذ النفاخ، لا يمكن أن يقول مثل هذا الكلام، وخاصة أنني بصحبة صديقه، وكان اللقاء أكثر حباً ونبلاً.. واللقاء الثالث والأكثر أهمية كان عند رحيل الأستاذ أحمد عبيد كبير ورَّاقي بلاد الشام، وكنت مقرباً منه، وأعلمني أولاده بجنازته وموعدها، في ذلك اليوم كان على الرصيف الأستاذ أحمد راتب النفاخ والدكتور شاكر الفحام، دعاني الدكتور شاكر فتقدمت بتهيب، وسألني عن تعييني في مركز البحوث، فأخبرته بوجود عقبات، وعدم قدرتي على لقاء المدير العام الدكتور واثق شهيد، الذي تنسج حوله خرافات أيضاً، ابتسم الدكتور شاكر وقال: غداً في التاسعة اذهب للدكتور واثق سأكلمه اليوم.. وبالفعل ذهبت في اليوم الثاني، وانتهى كل شيء، وكان الدكتور واثق نسمة حب وليس خرافة مفزعة كما صوروه، أعود للأستاذ أحمد راتب النفاخ، فبعد انتهاء مراسم الدفن في باب الصغير، سألني عن وجهتي، فلم أجد جواباً إلا أن قلت: أنا أنتظر إشارتك، وفي ذلك اليوم رافقته من باب الصغير إلى بيته العامر مشياً على الأقدام، وكان الحديث طويلاً، وكان الأستاذ مستمعاً أكثر منه متحدثاً، وكان مبتسماً يحمل من اللطف والنبل ما لا يمكن تخيله أمام الحكايات الخرافية التي نسجت حول شخصيته.. تودعنا عند مدخل بيته وهو يدعوني للدخول والتواصل، وكل ما دار بيننا أحتفظ به حتى لا أدّعي القرب، ولا ينقل عني أحاديث تصبح خرافة.. كل ما عرفته في لقاءاتي كان يتعلق بعالم جليل، وإنسان هادئ ومفكر، ولا وجود لأي حركة أو ردة فعل مما كنت أسمع من مدّعي التلمذة والقرب! فماذا يضيرهم أن يحبه الجميع، وأن يحب الجميع وأن يعطي علمه لهم؟

النفاخ وطه حسين

منذ أمد بعيد وأنا أسمع قصصاً عن خلافات بين العميد طه حسين والأستاذ النفاخ، والحقيقة إن هذه القصص خرافات، فإن عدنا إلى ديوان ابن الدمينة، فهو تحقيق ودراسة، واللجنة لا علاقة لها بطه حسين من قريب أو بعيد، وربما كان في الدراسة التي لم تظهر بعض الآراء حول الشعر، ولكن هذه الردود، إن وجدت لا تصل حدّ مثل هذه الخلافات الحادة، وربما كان الأكثر اتصالاً بطه حسين حينها الدكتور شكري فيصل الذي جمع تاريخ الأدب العربي له، وهذه الحكايات الخرافية تتجاهل أموراً:

– طه حسين أستاذ جليل من مواليد الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهو صاحب مكانة وأستذة، ولا يحق لنا أن ننسب التطاول من طالب إلى أستاذ، ونحن نجلّ هذا الطالب.

– هل يعقل أن يقول الخرافيون: كانت الدكتوراه محصورة بمصر؟ وماذا عن الشهادات التي جاءت من فرنسا وبريطانيا، وطه حسين من الذين درسوا في فرنسا؟

– أنجز الأستاذ النفاخ ابن الدمينة، ولم يتقدم بما أنجزه للدكتوراه، وأذكر أنه ربما كانت في موضوع القراءات وسمعت منه ومن أحبابه الحقيقيين بأن د. ضيف حثّه مرات عدة على جمع ما لديه لتتم مناقشته، لكن سعي الأستاذ النفاخ لمرحلة من التجويد العليا منعه من فعل ذلك، ومن جمع ما قام بتجهيزه، وليس خلافه مع طه حسين.

– الأستاذ النفاخ كان مقرباً من أ. محمود شاكر، وكل واحد منهما يجلّ الآخر، وفي مقالات وكتب محمود شاكر يناقش آراء طه حسين، يعارضها حيناً، ويمتدحها حيناً، وهي مناقشة علمية، فكيف يكون ذلك من شاكر ويكون على النقيض صديقه؟

– تقول بعض الخرافات بأن طه حسين ضرب الرسالة، ورفض منح الشهادة للأستاذ النفاخ، فإذا كان قد ناقش الماجستير، وليس فيها طه حسين، ولم يتقدم للدكتوراه، فعن أي رسالة تتحدث الخرافات؟

– المستوى السوقي المتدني في اختيار النكتة والمفارقة وحده يجب أن يلغي هذه الرواية، فهي مستحيلة الحدوث بين طالب وأستاذه، ولم تحصل بين طه والرافعي، وهم الندّان، فكيف يمكن أن تحصل من طالب ما عرف عنه سوى التأدب؟!

– تتابع الخرافة: فلما علمت الحكومة السورية آنذاك، عينت الأستاذ النفاخ بمرتبة دكتور، ما هذه الأوهام؟

كيف عندما علمت؟ هل يحدث ذلك في غرف سرية؟ وإن كانت الحكومة آنذاك ستعينه دكتوراً فلماذا أرسلته وأرسلت غيره؟

إنها قصص خرافية تسيء للأستاذ قبل كل شيء، وتسيء للعملية التعليمية، وأنا بحدود معرفتي بالأستاذ الفاضل والعالم الراحل كان أدق وأشدّ الناس تهذيباً، ولم يكن ليتجاوز النقد العلمي، وكل ما يتم تداوله يتقوله طلابه الذين زعموا قربهم منه! ولو كانوا مخلصين حقاً فعليهم أن يهملوا بعض القصص لو حدثت، وأنا متأكد بأنها لم تحدث.

وبحكم تواصلي مع الأستاذ عبد الله النفاخ نجله المتخصص بالعربية، والسيدة الفاضلة أم عبد الله، أشهد بأن هذا البيت لا يكون فيه غير التهذيب والعلم: فلتكفوا عن صياغة الخرافات، وأطلب من أسرته أن تصنع له سيرة علمية موضوعية حياتية تليق بقامته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن