قضايا وآراء

تحولات الموقف الأميركي على ضفاف الحرب في غزة

| عبد المنعم علي عيسى

تشير السياقات التي اتخذها العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة خصوصاً منذ مساء يوم الجمعة 27 تشرين الأول الماضي، الذي شهد تصعيداً كبيراً بالتزامن مع قطع كل أنواع الاتصال، عن غزة في محاولة لجعل «الرواية الإسرائيلية» هي الوحيدة المتاحة أمام العالم المهتم بما يجري هناك، نقول تشير تلك السياقات إلى حالة من اهتزاز الأعصاب يمكن لحظها بوضوح في أداء القيادتين السياسية والعسكرية لكيان الاحتلال، الأمر الذي يفسر كل هذا الجنون على مرأى ومسمع الغرب الذي اقتصرت ردود أفعاله على تظاهرات تجري هنا وهناك والتي تشير في عمقها إلى حال من عدم التناغم بين الشارع، الذي يخرج بتلك التظاهرات، وبين حكوماته التي ما انفكت تقدم الدعم بشتى أنواعه لكيان بات يخوض الحرب، فقط، من أجل الحرب.

في الدفاع عن الخلاصة سابقة الذكر يمكن القول إن الحرب كانت تقوم دائماً لتحقيق أهداف سياسية لم يستطع الساسة تحقيقها، وهي تبلغ أوجها عندما يعلن هؤلاء، الأخيرون، عن انسداد الآفاق الكفيلة بتحقيق تلك الأهداف، وفي إسقاط ذلك كله على ما يجري في غزة منذ 7 تشرين الأول المنصرم، يمكن القول إن حكومة الاحتلال أعلنت وعلى لسان رأس هرم السلطة فيها أن الهدف الأساسي والسياسي، للعملية العسكرية التي أطلقها جيش الاحتلال هو القضاء على «حماس»، وإذا كان الإعلان سابق الذكر لم يحدد معنى « القضاء» الذي يحتمل هنا معنيين اثنين أولهما تفكيك منظومة « حماس» ومحوها من الوجود، وثانيهما هو القضاء على سلطتها فحسب، في القطاع الذي سيطرت عليه منذ العام 2007 وأقامت فيه حكما ليس ذا صلة بالسلطة الفلسطينية التي قامت عام 1994 بعيد نحو عام على توقيع «منظمة التحرير الفلسطينية «لاتفاق أوسلو» مع سلطات الاحتلال خريف العام 1993.

كاد الموقف الذي اتخذته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من «طوفان الأقصى» أن يقول إن هذه الحرب هي حربنا قبل أن تكون حرب أي أحد آخر، ولربما كان الأمر تقليديا قياسا للسياسات التي اعتمدتها واشنطن تجاه إسرائيل منذ العام 1964 الذي شهد انتقال «الرعاية» الإسرائيلية من لندن إلى هذه الأخيرة كنتيجة طببعية لانتقال مركز الثقل الغربي، من الأولى ليحط عند الأخيرة، في أعقاب عدوان السويس «العدوان الثلاثي» على مصر 1956، لولا أن الحضور الأميركي كان «أصالة» هذه المرة وبدرجة فاقعة، بل غير معهودة، ليكشف بدرجة لا لبس فيها عن جوهر العلاقة التي تربط الكيانين ببعضهما بعضاً والتي من المؤكد أن لا شبيه لها في نمط العلاقات الدولية التي نعرفها راهنا، بل ولا تلك التي سجلها التاريخ على امتداد مراحله، ولذا فإن تقييم تطورات الصراع والتنبؤ بآفاقه، لا بد أن يكون عبر لحظ تلونات المواقف الأميركية التي شهدت العديد من الانعطافات في خلال الأيام الخمسة والعشرين المنصرمة على احتدام الصراع.

في البداية كانت أركان الإدارة الأميركية، بقضها وقضيضها، تقول وبصوت واحد إن «من حق إسرائيل استخدام كل الوسائل والأدوات المتاحة لحماية أمنها ومواطنيها»، وهذه «النغمة» استمرت على امتداد الأسبوع الأول حاملة معها «رخصة» للقتل والتدمير غير محدودة الضوابط، ومع تكشف الحقائق التي كان من أهمها تماسك جبهات القطاع كوحدة غير قابلة للتفكيك أو المساومة، خرجت إلى العلن بعض الأصوات التي راحت تقدم آراء لا تشبه تلك التي راحت حكومتا تل أبيب وواشنطن تسوقان لها في سياق مناخات باتت أقرب إلى الهستيريا منها إلى أي شيء آخر، حتى إذا حل الأسبوع الثاني حلت معه الانعطافة الأميركية الأولى، وفيه، أي في ذلك الأسبوع، يخرج ديفيد بترايوس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA ذائع الصيت في حرب أفغانستان 2001 – 2021، ليقول إن «الحرب في غزة قد تستمر لسنوات قبيل أن تستطيع إسرائيل تحقيق أهدافها»، قبيل أن يضيف إن «القوات الإسرائيلية ستواجه في غزة وضعا أصعب من الوضع الذي واجهته القوات الأميركية في الصومال»، وإذا ما كان بترايوس خارج المنصب الآن لكنه لم يخرج بالتأكيد من «قماشة» الدولة الأميركية العميقة التي غالبا ما تلعب دوراً في ترجيح كفة على أخرى إبان صنع القرار.

في 28 تشرين الأول خرجت صحيفة «نيويورك تايمز» بتقرير قالت إن المعلومات الواردة فيه جاءت بناء على تصريحات لمسؤولين بالإدارة الأميركية، والتقرير يقول إن «إسرائيل أوقفت خطط الاجتياح البري واسع النطاق في غزة»، ويضيف إن ذلك كان «استجابة لاقتراح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن»، ولم يكد يمضي على هذا التقرير 24 ساعة حتى خرج جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، بمقابلة مع CBS قال فيها «ندعم وقفا انسانيا مؤقتا للأعمال العسكرية في غزة لإطلاق سراح الرهائن».

من المؤكد هنا أن هذه التحولات تحتوي ضمنا على عوامل تتعدى «أكمة» الرهائن التي توارى خلفها الموقف الأميركي وفقا لما يظهره تصريح سوليفان آنف الذكر، ولعل في الذروة منها تحولات المزاج داخل الكيان الإسرائيلي الذي كان يميل في الأيام الأولى إلى شن هجوم بري واسع بنسبة تتعدى 75 % من قوامه وفقا لاستطلاع أجرته صحيفة «معاريف» الإسرائيلية بعد أربعة أيام من «طوفان الأقصى» ثم عادت تلك النسبة لتتراجع إلى 25 % بعد مضي عشرين يوما على تلك الأخيرة وفقاً لاستطلاع أجرته الصحيفة المذكورة نفسها، فمعطى كهذا عامل شديد الأهمية في عملية صنع القرار يضاف إليه الانقسامات الحاصلة داخل القيادتين السياسية والعسكرية لكيان الاحتلال التي ستزداد حدتها بالتأكيد مع تدحرج العملية البرية إلى مطارح أوسع، والراجح هنا أن تل أبيب، تبعا لتحولات الموقف الأميركي الراسمة لحدود حركتها، سوف تسعى من خلال عمليتها العسكرية إلى نتائج تقود لحفظ ماء الوجه من جهة وإلى الخروج من الحرب ببنية سياسية تتمتع بالحدود الدنيا من التماسك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن