كنت طالباً في المرحلة الابتدائية عندما انطلقت في الساعة الثانية ظهراً من يوم السبت 6 تشرين الأول 1973 حرب تشرين التحريرية، ووفقاً لذاكرتي الطفولية فإنني ما أزال أتذكر مشهد سقوط الطائرات الإسرائيلية، ومشهد الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب السوري من جهة، وأبناء الأمة العربية من جهة ثانية، لكنني لم أدرك آنذاك ما فعله آباؤنا في تلك الحرب، ولا أثر السادس من تشرين في الوعي الجمعي للمجتمع الصهيوني، والذي ظل يطل برأسه عليهم طوال نصف قرن تماماً من دون أن ينساه أي منهم، قبل أن يطيح الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بكل هذا الإنجاز، ويخرج مصر بثقلها العربي والإسلامي من هذا الصراع الوجودي، من دون أن يقتل ذلك بالطبع مشاعر ملايين المصريين الذين ظلوا بفطرتهم وانتمائهم العربي أصليين رافضين للتطبيع.
إن أهم ما أنجزته تلك الحرب هو إنهاء أسطورة الجيش الذي لا يقهر، والتي أراد مخترعو كيان الاحتلال الصهيوني أن يرسخوها في الوعي الجمعي العربي بعد هزيمة حزيران 1967، وأثرها البالغ في آبائنا وأجدادنا آنذاك، وهو ما لمسناه بالفعل بعد انتصار حرب تشرين التاريخي.
كان المطلوب بعد إنجاز تشرين التاريخي 1973 محو آثاره فوراً، وتثبيط الهمم، وإعادة الفلسطينيين والعرب عامة إلى مرحلة عام 1967، والقول للجميع إنه لا قدرة لكم على مواجهة الكيان المدعوم من قوى الغرب الرأسمالي، ومن إمبراطوريات إعلامية، ودبلوماسية، أي منظومة هيمنة كاملة، تتحكم بكل شيء، أي عليكم الاستسلام، والذهاب نحو ما سموه السلام الذي تبين لنا لاحقاً أن الظاهر منه مصافحات، وابتسامات، ورضا غربي، لكنه في المضمون تجريد من أي دور إقليمي، ونزع كل أسلحة الوعي من يدي شعبك، وتغيير مناهج التعليم والتربية، وتزوير التاريخ، وتحويلك إلى دمية بيد قوى الهيمنة بما في ذلك تبعيتك الاقتصادية لهم في كل شيء من رغيف الخبز إلى السلاح، والمعرفة، والفن، والعقائد، والأديان، أي تحويلك إلى خادم مطيع لمنظومة الهيمنة العالمية.
لمن يريد أن يدقق أكثر لينظر من حوله: نحن في سورية مثلاً من المفهوم جداً لماذا وضعنا الاقتصادي سيئ؟ لأننا خضنا حرباً دفاعية وجودية، ولا نزال، دُمرت فيها آلاف المدارس، والمصانع، والبنية التحتية، ودُفع بآلاف الإرهابيين من شتى أصقاع الأرض إلى بلدنا، ونخضع لحصار خانق، قاتل لإخضاعنا، وتهجير الكفاءات، والاستثمارات، وتقبع قوى الاحتلال الأميركي شمال شرق سورية لتنهب نفطنا، وثرواتنا، وفي الشمال الغربي احتلال تركي يدير منظمات إرهابية تخضع لـ«الناتو»، ولذلك من المفهوم جداً لماذا يحدث التراجع الاقتصادي بغض النظر عن العوامل الذاتية التي لها تأثير، لكنه ليس كبيراً لإحداث تغيير حقيقي!
لكن سؤالي: لماذا تشير الأرقام الاقتصادية إلى تراجع في مصر، والأردن مثلاً، وهي دول عربية وقعت ما سموه اتفاقيات سلام، ولماذا تقطع الكهرباء في القاهرة، كما في دمشق؟ ولماذا لم تستطع السلطة الفلسطينية بعد أكثر من ثلاثين عاماً من اتفاقيات أوسلو أن تُنجز دولة فلسطينية مستقلة على الرغم من آلاف جلسات المباحثات، والوسطاء، واللجان الرباعية والخماسية، ومئات القرارات من الأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات الدولية، ولماذا يبقى الفلسطينيون ينتظرون الرضا الإسرائيلي والقطري، والأميركي لاستلام رواتبهم الشهرية وكأنهم شحاذون على قارعة الطريق!
هذه هي الصورة الواقعية التي لا يستطيع أحد أن يناقشنا بعكسها، أي ماذا جلب التنازل؟ والانبطاح؟ والتخلي عن الحقوق؟ حتى ضمن حدها الأدنى، والتي مع ذلك انتهكت مراراً وتكراراً!
في السابع من تشرين الأول 2023 أي بعد نصف قرن من ذاكرتي الطفولية عن حرب تشرين الأول 1973، قلبت المقاومة الفلسطينية الحسابات كلها، لا بل قلبت العالم رأساً على عقب، وقدمت لنا صورة مشرقة عن الإمكانات الكامنة لدى الفلسطينيين كمقاومة، وأن طريق المقاومة هو البديل الوحيد لإنهاء هذه المظالم التاريخية، والإطاحة بالكيان الصهيوني كمشروع غربي رأسمالي، وكـ«ناتو» صغير في المنطقة، وكقوة احتلال استيطاني إحلالي لابد أن يزول.
الإنجاز الفلسطيني لم يأت من فراغ لكسر هذه العنجهية الصهيونية- الغربية، فلقد سبقته انتفاضة الحجارة، وطرد المحتل من جنوب لبنان عام 2000، وهزيمته عام 2006، وجولات ومعارك متعددة بدءاً من عام 2008 أي عقود من المسار التاريخي النضالي في المنطقة، وصمود سورية الأسطوري كأحد دعائم وحواضن المقاومة في المنطقة، والدعم الإيراني، والتغير العالمي الذي هز النظام الأحادي القطبي، وبروز روسيا والصين وغيرها من القوى الإقليمية والدولية، لا بل ظهور تحول في المزاج العالمي حتى في الغرب.
على وقع طوفان الأقصى تبرز أسئلة كثيرة لابد من الإجابة عنها:
1- هل الصراع الحالي هو صراع ديني بين مسلمين ويهود؟
جوابي: إن الصراع هو بين احتلال استيطاني إحلالي عنصري، فاشي، وبين حركة تحرر وطنية فلسطينية تقاتل من أجل حقوقها المسلم بها بموجب القرارات الدولية، بغض النظر عن اللون الأيديولوجي لهذا الفصيل أو ذاك، لكننا ننظر إلى ذلك على أنه مقاومة ضد المحتل، لأن اضطهاد اليهود كان على يد الأوروبيين، وليس على يد أبناء المنطقة، إضافة إلى أن الصهاينة لم يميزوا في غزة بين كنيسة، وجامع، أو بين مسلم ومسيحي، والأمر ينطبق على القدس وكل أنحاء فلسطين.
2- هل يمكن إقامة سلام مع هذا الكيان العنصري؟
جوابي: إنه من الصعب جداً بناء سلام مع كيان يرى الحل في الإبادة الجماعية للفلسطينيين والسوريين، واللبنانيين، والعراقيين، واليمنيين، وغيرهم من العرب كي يعيش ويستمر!
عليكم أن تقرؤوا ما قاله أقدم جندي احتياطي في جيش الكيان، عندما استدعوه لرفع الروح المعنوية للصهاينة حيث قال: (اقضوا عليهم، وعلى أهلهم، وأمهاتهم، وأطفالهم. هذه الحيوانات لم تعد قادرة على العيش. يجب على كل يهودي يحمل سلاحاً أن يخرج ويقتلهم… إذا كان لديك جار عربي، لا تنتظر، اذهب إلى منزله وأطلق النار عليه… إبادة كاملة، وغزو وتدمير).
ماذا يختلف كلام هذا الجندي عن وزير الحرب الصهيوني الذي وصف الفلسطينيين بـ(الحيوانات البشرية)، وهذه اللغة والمفردات ستجدونها في كل فيديو ينشر من داخل الكيان.
3- هل هناك أفق ومستقبل للكيان بعد السابع من تشرين الأول 2023؟
للإجابة عن هذا السؤال سأستعين بأحد المؤرخين اليهود، وهو آلان با بيه الذي كتب كتاباً تحت عنوان (فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة)، وفيه يعرض تناقضات فكرة إسرائيل مع التاريخ والواقع، ويقول إن جبالاً هائلة من الجهود والعمل بُذلت لترسيخ فكرة إسرائيل ضمن قالب من البرمجة، الأدلجة، وادعاء البطولة والخلاص، وعدالة التاريخ، لكن (با بيه) يقول إن الواقع يمثل كل ما هو متعلق بالاضطهاد والتهجير، والكولونيالية، والتطهير العرقي، ولا يكفي المال لترويج شرعية الفكرة دولياً، إذ لابد من عدالة الفكرة.
لقد سقطت فكرة إسرائيل بالنقاط عبر تاريخ طويل من النضال، وأعتقد أنها سقطت بالضربة القاضية بعد السابع من تشرين الأول/ 2023، إذ أصبح واضحاً أن واشنطن هي التي تقود وتدير، وتسلح، وتدمر، لأنها تجد في سقوط المشروع الصهيوني سقوطاً لأحد أهم دعائم مشروع هيمنتها العالمي، ليس غريباً أن يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: (إن نصرة الفلسطينيين تكون بالأفعال، وبقتال من يدعم العدوان أي الأميركيين، الذين نقاتلهم في أوكرانيا)، كما أنه ليس غريباً أن تتخذ الصين موقفها بشطب اسم إسرائيل من منصتي الخرائط الصينية المهمتين «علي بابا، وبايدو…» دون أن تقدم أي تفسير لهذا التغيير.
تداعيات وأسئلة ما بعد طوفان الأقصى كثيرة وعديدة، ويمكن أن نكتب عنها الكثير، لكن الأهم أن وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن يرى أن وقف قتل النساء والأطفال في غزة ليس في مصلحة الكيان الصهيوني، ولابد من استمرار الحرب، وهو كلام يذكرني تماماً بما كانت تقوله سلفه كونداليزا رايس عام 2006 خلال حرب تموز عن مخاض ولادة شرق أوسط جديد من أشلاء أطفال، ونساء، ورجال لبنان، هي التجربة نفسها، والكأس المر الذي سيتجرعه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما تجرعه ايهود أولمرت قبله، وسيتجرعه الرئيس الأميركي جو بايدن، كما تجرعه سلفه جورج بوش الابن قبله.
هي سنة التاريخ، وعدالة القضية، وتؤكد مرة أخرى صحة مقولة الرئيس الأسد: (إن كلفة المقاومة أقل بكثير من كلفة الاستسلام)، انظروا إلى المستسلمين كيف ينظر إليهم العالم كأدوات للسمسرة، والفتات، أما المقاومون، والشهداء فصورهم تزين صدور بيوتنا، وقلوبنا، وننتظر كلماتهم على أحر من الجمر.
أنها لحظة تاريخية قضيت نصف قرن من عمري كي أراها كغيري من ملايين العرب، والعالم الحر، ولكن حذارِ من سادات آخر، ولا أظن أن المؤمن يلدغ من جحر مرتين، فالعالم تغير، ونحن تغيرنا كذلك.