إحدى أبرز أغنيات التراث الفلسطيني والعربي … من هو «ظريف الطول» ولماذا تغنت به النساء؟
| مصعب أيوب
عدد كبير من القصص والروايات الشعبية، والتبدلات الوطنية، أصبحت أغاني تراثية مرتبطة بشكل أو بآخر بالثقافة الفلسطينية، أو الدول العربية المجاورة، وباتت أحد أوجه الفلكلور الشعبي بمرور السنين.
كنز وجداني
تبقى الأغاني التراثية متداولة بسبب شعبيتها وبساطتها وأصالة فحواها وجمال تعابيرها، وتكثر الأغنيات الشعبية التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد وخصوصاً في المناسبات والتحولات والتبدلات المحلية والدولية، وهي لا تنتمي لمصدر معين أو لحن محدد ولكن الأشخاص البسطاء هم من صمموا ألحانها في تجمعاتهم المختلفة وليالي الأفراح والزفاف، وربما تعد كنزاً لم يستطع اليهود مصادرته أو سلبه واحتفظ به الفلسطينيون في ذاكرتهم، ولعل أغنية (ظريف الطول) من الأمثلة القوية التي أصبحت علامة مميزة في التراث الشعبي الفلسطيني، فكانت لصيقة الفلّاحين في الصباح الباكر وفي أوقات الزراعة والحصاد، كما أثبتت نفسها في أغان الجدّات، لتكون بصمة واضحة ومتميزة في قضية العرب الخالدة.
أغنية ذات مغزى
خصوصية أغنية (ظريف الطول) تأتي من أنها فلسطينية وجاءت منذ فترة الاستعمار البريطاني عقب وعد بلفور، ولكن الأغلبية لا تعرف قصتها الحقيقية ككثير من الأغنيات المتداولة، ولكن بالطبع فإن لها مغزى معيناً ولم تأت من العدم، فالبعض يقول إن ظريف كان شاباً يعمل في نجارة الخشب في إحدى القرى وافداً من قرية أخرى، ويقال أيضاً إنه يتيم وحسن الخلق وطيب المعشر وكانت تتمنى النساء أن يكون زوجاً لإحدى بناتها وتتسابق كلهن على لفت انتباهه لتظفر به صهراً للعائلة، وقد كان ظريف الطول رجلاً صلباً وقوياً كما أنه ألهب قلوب النساء بخصاله الحميدة ووسامته، حتى إن عيون الفتيات كانت ترتبك عندما ترينه، إلا أنه لم يعط لذلك بالاً فكانت أنظاره متجهة إلى فلسطين وقضيتها ووحدتها ومقدساتها.
مقاتلٌ مقدام
كان ظريف الطول يكثر الغياب في بعض الأحيان، وخلال فترة غيابه باتت النساء تنسج بعض الأبيات التي جاء فيها: (يا ظريف الطول وقف لقلك… رايح ع الغربة وبلادك أحسنلك، خايف يا ظريف تروح وتتملك وتوالف الغير وتنساني أنا)، وراحت الناس تضيف أبياتاً ومقاطع بحسب حالتها العامة والأجواء السائدة وأصبحت تنتشر في بعض القرى والبلدات.
ظريف الطول لم يكن شاباً وعاملاً فحسب بل كان مناضلاً ومنخرطاً بأبناء جلدته، فكان يجمع المال ويشتري البنادق ويوزعها على من يريد من الشباب لرد الأعداء، وقد تتالت الصراعات والجبهات بين السكان الأصليين وبين الاحتلال، وكانت القصص تتمحور حول ظهور (ظريف الطول) في معارك عدة، وفي أكثر من موقعة حاسمة وطاحنة.
شابٌ ثائر
وفي حادثة ما وبعد أن أغار بعض المسلحين على القرية وبعد أن أبلى ظريف بلاءً حسناً اختفى عن الأنظار وانقطعت أخباره، وراحت تتداول الجماعات بعض الأخبار حوله، فقال البعض إنهم رأوه مع كتائب القسام وآخرون قالوا إنه توارى في الجبال وآخرون أفادوا بأنه قتل، وبات حديث الناس وصارت قصته تحكى كمواويل ويستلهم منها الشعراء والملحنون بعض أعمالهم، كما تذهب بعض الروايات إلى أن ظريف الطول لقب شعبي لكل شاب فلسطيني يطلقُ على كل ثائرٍ، ورافض للاحتلال ومقاوم له ومدافع عن أرضه لاستعادتها ممن اغتصبها.
عادة قبلية عربية
ويرجئ بعض الباحثين في الأغاني التراثية عدم ذكر اسم ظريف الطول الصريح لأن ذكر الأسماء المتغنى بها في الشعر والغناء في أحيان كثيرة يكون مرفوضاً إذا جاء من شاعر أو مغن رجل، فما بالك لو كانت صاحبة الشعر أو الأغنية أنثى! فإنه من المعيب التغني بشاب بصورة مباشرة وهو ما توارثه العرب من عاداتهم القبلية والعربية ولاسيما كما كان متداولاً قديماً أنه إذا تغنى أحدهم باسم محبوبته بشكل صريح متغزلاً باسمها الحقيقي فإنها ستمنع عنه ولا تزّوج له، ولذلك تم الاكتفاء بوصف حسنه وجماله وشيمه.
صيغة أصلية
في الأغاني الشعبية يمكن أن يكون التصرف فيها مشاعاً من دون قيود أو قيود بسيطة بعيداً عن التشويه؛ كما لا بد من الحفاظ على الصيغة الأصلية، وقد حملت تلك الأغاني الشعبيّة بعداً وطنيّاً ورمزيّاً ولم تكتف فقط بنقل الفلكلور.
تضم الأغنيات الشعبية معاني كثيرة وتكتنز العديد من مشاعر الحب والمقاومة التي تتكئ على التراث والتاريخ كإحدى أهم الوسائل للحفاظ على الذاكرة وضرورة التأكيد على استرداد الحقوق المسلوبة.
بساطة الكلمات واللحن
الحكايات الشعبية دائماً تكون قريبة من الواقع، وقد تم توظيف ظريف الطول كثيراً في الأعراس والتجمعات الشعبية والدبكات وقد تم تطويعها في الكتابة للشهادة وللغربة وللحنين لـ«الوطن» والغزل والحب، ولعل سبب استمراريتها هو بساطة اللحن والكلمات، كما أنها حملت في طياتها الوجدانية معاني الثورة والإباء بعد النكبة الفلسطينية ونزوح وتشرد المدنيين في فلسطين ومعاناتهم من الهجرة القسرية، وربما كان الكثير من الرجال يرددها في المخيمات، حيث يعبرون من خلالها عن آلامهم وفقدهم ومعاناتهم من التهجير، ولم تكن الأغنية مجرد كلام تنساب من الشفاه بل إنها جزء من الهوية الفلسطينية وتراثها.
رمزٌ وطني
وأخيراً لا يمكننا أن ننكر أن كثيراً من الأغنيات أصبحت من بين أغاني المقاومة ورمزاً من الرموز الوطنية التي تدافع عن قضيتنا الجوهرية، فأثبتت أنه يمكن للأغنية وكذلك الأهازيج والقصائد أن تزلزل المحتل وترعبه وتكون دافعاً ومحفزاً للمقاتلين والمقاومين ولعل أبرز الأمثلة على ذلك الأديب والروائي غسان كنفاني الذي أرعبتهم مؤلفاته وقاموا باغتياله، ولعل أغنية ظريف الطول تعبر عن كل شاب فلسطيني وضع روحه على كفه ورفض الاستسلام والخنوع رافعاً راية قضيته عالياً.