لا أحد يجب أن يشك في أن معادلة الصراع العربي– الصهيوني وعمليات المقاومة التي رافقتها منذ عقود كثيرة كبدت الكيان الإسرائيلي أثمانا باهظة من خسارة بشرية وانهيار معنوي وهجرة معاكسة، ووضعته في أفق مسدود جعلته عاجزاً عن التخلص من المقاومة وزيادة قدراتها وساحاتها ضده.
وهذا ما تحقق على الأرض منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وما ولده من مقاومة لبنانية وطنية وإسلامية قدمت لها سورية والفصائل الفلسطينية كل إمكانات الدعم والإسناد على أرض لبنان فتحقق انتصار عام 2000 بتحرير لبنان والجنوب ودفع الكيان ثمناً باهظاً من قدراته وثقته بنفسه وبحلفائه الأميركيين الذي هزموا معه على أرض لبنان عام 1983 يوم انسحبت قوات أميركية وبريطانية وايطالية وفرنسية بعد مقتل 250 من جنود المارينز على أيدي المقاومة اللبنانية. وفي فلسطين تمكنت فصائل المقاومة من تحرير قطاع غزة عام 2005 وتحويله خلال سنوات قليلة إلى ترسانة مسلحة ولم يتمكن جيش الاحتلال من إيقاف تزايد قدرات هذه المقاومة واتساع ساحاتها وجبهاتها ضد وجوده.
وبعد انتصار سورية عام 2018 وحلفائها في محور المقاومة على القوى والمجموعات الإرهابية التي شنت عليها أطول حرب غير مسبوقة بوحشيتها وحجم دمارها، ازدادت متانة وحدة المقاومة من طهران إلى بغداد إلى أنصار الله في اليمن إلى دمشق وحزب الله والمقاومة الفلسطينية وأصبح الكيان يواجه قدرة متعاظمة من كل هذه الأطراف، وانبثقت في خضم هذه التطورات عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول الماضي من ساحة قطاع غزة وفلسطين لتؤكد على أن المقاومة قادرة على زعزعة أركان هذا الكيان وتكبيده خسائر بشرية ومعنوية غير مسبوقة في تاريخ احتلاله وخاصة من داخل أراض فلسطينية محررة رغم حصارها من كل جانب.
ولعل أكثر ما يمكن وصفه للوضع الراهن بعد 29 يوماً على المجابهات المستمرة على أرض القطاع وفي الضفة الغربية ومن جنوب لبنان هو أن المعركة مستمرة في أوجها في ساحة القطاع وبكل الاستعدادات المطلوبة لزيادة مشاركة الساحات الأخرى من جنوب لبنان وامتداد هذه الساحة إلى حدود الجولان والعراق حتى طهران واليمن، فهذه الحقيقة ما تزال ثابتة تؤكدها كل أطراف محور المقاومة والخطاب الناري الذي ألقاه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أول من أمس في تأبين شهداء «طريق القدس» الذي أبلغ فيه رسالة تؤكد أن أيدي كل المقاتلين في الساحات ما تزال على الزناد للمشاركة المباشرة لإسناد فصائل المقاومة في قطاع غزة وفلسطين.
فالمعركة مستمرة وما زال جيش الاحتلال عاجزا عن إيقاف فاعلياتها وإسكات نيرانها رغم وحشية استهدافه للمدنيين ورغم مظاهر الدعم الأميركي العسكري العلني لجيش الاحتلال، وبالإضافة إلى هذا الوضع الإقليمي لمحور المقاومة لا بد من التأكيد على أن هذا المحور يستمد إسناداً دوليا مهما واستراتيجيا من الصين وروسيا على قاعدة الأهداف المشتركة المناهضة للهيمنة الأميركية والغربية التي تسيطر على النظام العالمي في كل العالم وعلى المستويات الإقليمية والعالمية.
فالحرب المستمرة بين الغرب وروسيا في أوكرانيا وكذلك التهديدات الأميركية للصين في موضوع تايوان وتحريضها على الوطن الأم الصين أصبحت تفرض جدول عمل مشتركاً بين محور المقاومة والتحالف الروسي الصيني على الساحة الإقليمية ضد هذا العدو المشترك ليصبح كل انتصار على المخططات الأميركية في المنطقة هو انتصار يعزز قدرة جبهة الحرب العالمية على الغرب والولايات المتحدة والعكس صحيح.
وهذا يعني أن ما يجري في قطاع غزة لن تنحصر تأثيراته على مساحة المنطقة الفلسطينية أو الإقليمية بل إن الاهتمام الأميركي المكثف لإنقاذ الكيان من حجم الانهيار الذي تعرض له في هذه الحرب يدل على خشية واشنطن من خسارة أهم حليف استراتيجي لها في المنطقة، وهذا يعني بالمقابل أن كل انهيار تولده المقاومة على «تل أبيب» سيشكل لمحور المقاومة وحليفها الدولي إنجازا ومزيدا من القوة.
فمعركة «طوفان الأقصى» أصبحت بالضرورة جزءا من واقع هذه المعادلة وباتت نتائجها تتعلق بالحسابات الإقليمية والعالمية الإستراتيجية على المدى القريب والبعيد ولن تكون معركة طوفان الأقصى على غرار ما فرضته «تل أبيب» في حروبها السابقة على القطاع منذ عام 2008 محصورة في دوامتها المألوفة، وهذه النتيجة بدأت تدركها «تل أبيب» وواشنطن معاً.