تواصل الحرب الإسرائيلية العدوانية على غزة فرض إيقاعها على الحركة السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة، ومع تصاعد حدة النيران ومشاهد موت الأطفال ووصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إسرائيل وإعلانه الدعم المطلق لها، تدق جماعات حقوق الإنسان ناقوس الخطر وتعلن منظمة الصحة العالمية عن مأساوية الوضع، وعجز المنظمات الإنسانية عن تقديم أي مساعدة، إضافة إلى قصف المستشفى المعمداني.
كل هذا جعل نسبة تأييد الشباب الأميركي لبايدن بحسب استطلاع للرأي أجرته جامعة كوينيبياك، مؤخراً، تتدهور، بمقدار 25 في المائة.
ويرينا الاستطلاع نفسه أن نصف الناخبين تحت سن 35 عاماً لا يوافقون على إرسال الأسلحة والدعم العسكري لإسرائيل.
أميركا لم تكن في يوم من الأيام، منقسمة في داخلها، كما هي حاليا، وكان من المتوقع أن تنطلق معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة 2024، غير أن الحرب الإسرائيلية الإجرامية على غزة، عجَّلت بالموعد.
المتابع لما يحدث من بعد العملية العسكرية الفدائية لـ»حماس» في السابع من تشرين الأول الماضي، يلاحظ أن شيئاً ما تغيَّر في المزاج الأميركي.
على سبيل المثال، من بيت الدبلوماسية الأميركية، حيث تسود حالة إحباط واسعة لدى قطاع عريض من الدبلوماسيين، غير المؤيدين لمواقف إدارة بايدن تجاه إسرائيل حيث استقال جوش بول المدير في وزارة الخارجية الأميركية.
صحيفة «هافنغتون بوست»، أشارت إلى تجاهل وزير الخارجية أنتوني بلينكن، لما يجري، لا سيما في ضوء أعداد المعترضين «وثيقة معارضة» رافضة للنهج الأميركي تجاه الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
المراقبون لمشهد الخارجية الأميركية يتساءلون: ترى «هل ما يحدث انقسام أم تغيير جوهري في مكونات الدبلوماسية الأميركية؟».
وكان من تداعيات ذلك صعود فريق جديد في داخل صفوف الدبلوماسية الأميركية، يأخذ في الاعتبار الحرص على مستقبل العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة الأميركية، وبقية العالمين العربي والإسلامي، في إطار رؤى استشرافية وبغض النظر عن توجيه اتهامات بمعاداة السامية في الداخل الأميركي.
وهذه الأخيرة تقودنا إلى الانقسام الذي طال التجمعات اليهودية الأميركية، التي كانت ولا تزال من أهم ركائز دعم إسرائيل من خلال «اللوبي اليهودي» الشهير.
المراقبون يرون ازدياد انقسام اللوبي الصهيوني في أميركا، الذي انشقّت منه فئة عريضة مثل «جي ستريت»، الرافضة للنهج الإسرائيلي التي تَعد تصرفات حكومات «تل أبيب» في آخر عقدين بمنزلة كارثة على اليهود في العالم كله.
العالم تابع المظاهرات الحاشدة للجماعة اليهودية العلمانية، «منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام (JVP)، التي ارتفع صوتها قائلة: «نحن نرفض مشاهدة ارتكاب الحكومة الإسرائيلية إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة».
الجماعة، احتشدوا داخل الكونغرس، في إشارة رمزية لا تخلو من الدلالات، كي يُعدل، الرئيس الأميركي من الاختلالات الجوهرية في سياساته الدولية.
شارك المئات من أعضاء الجالية اليهودية في نيويورك رفضاً للاعتداءات ضد غزة، وقد حمل بعضهم لافتات كُتب عليها: «اليهود يقولون أوقفوا الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين»، فيما يصرح البعض الآخر بالقول: «كيهود نحن هنا اليوم لنقول: لا تفعلوا هذا باسمنا، ليس باسمنا».
يوجد يهود أميركيون متدينون، مثل جماعة «ناتوري كارتا» أو «حراس المدينة»، وهي حركة ترفض قيام دولة يهودية، انضموا بدورهم إلى هؤلاء وأولئك.
بلغ الانقسام تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة ساحة هوليوود، وقد جرى العرف أنها منصة إطلاق صواريخ فنية، تدعم السياسات الأميركية المؤيدة لإسرائيل.
غير أن المشهد هذه المرة بدأ يتحول، على الرغم من قيام عدد من مشاهير هوليوود بالتوقيع على رسالة لدعم قوات الاحتلال، فإن فئة أخرى، ومن بينهم الكوميدي جون ستيورات وخواكين فينيكس وغيرهما، وجّهوا رسالة إلى الرئيس الأميركي بايدن يحثونه فيها على الضغط من أجل وقف إطلاق النار في إسرائيل وغزة.
الانقسامات في الولايات المتحدة الأميركية طالت العديد من الإعلاميين والكتاب، والأدباء والمبدعين، ما يؤكد بأن شيئاً تغيَّر بالعمق في العقلية الأميركية.
أظهر استطلاع للرأي أجرته شبكة «سي بي إس يوز» أن 56 في المائة من المشاركين لا يوافقون على تعامل بايدن مع الأزمة الراهنة، على حين يعتقد 53 في المائة أنه لا ينبغي للولايات المتحدة أن ترسل المزيد من الأسلحة لإسرائيل.
ذهب 61 في المائة من الديمقراطيين إلى ضرورة أن يبذل بايدن المزيد من الجهد لتشجيع الحل الدبلوماسي وبعيداً عن لغة البندقية.
ثمة سؤال هل أميركا على مشارف المزيد من التشظي والانقسام؟ ومَن سيدفع الثمن؟ بايدن من فرصة رئاسة ثانية، أم الإمبراطورية المنفلتة من استقرارها في الداخل أول الأمر، ووزنها الأخلاقي في الخارج تالياً؟ أكثر من استطلاع، أجرته وسائل إعلام وشركات إحصاء على مدى السنوات الماضية، بينت جميعها، أن الشباب لم يعودوا يتعاطفون مع إسرائيل بالشكل الجارف الذي كان عليه آباؤهم.
أشهر الاستطلاعات صدر عن «مركز بيو للأبحاث» وتبين أن 61 في المائة ممن هم دون الثلاثين، يتعاطفون مع الشعب الفلسطيني، على حين لا تصل النسبة إلى أكثر من 47 في المائة لدى من تجاوزوا 65 عاماً.
هذا يمكن أن يفسر المظاهرات العالية النبرة في الجامعات الأميركية الكبرى، مثل كولومبيا، وهارفرد.
وباسم ائتلاف من 34 منظمة طلابية صدر بيان يدين «نظام الفصل العنصري، الذي هو الجاني الوحيد والمسبب للحرب».
جمعيات، حقوقيون، نقابات، أكاديميون، لا يرون تأييد إسرائيل سهلاً حين تقتل كل ربع ساعة طفلاً في غزة.
بالمقابل سلّطت الحرب الإسرائيلية على غزة الضوء على الانقسامات داخل الحزب الديمقراطي الأميركي خصوصاً في ولاية نيويورك، قبل أسابيع قليلة من الانطلاق الرسمي لموسم الانتخابات الرئاسية.
وبينما تستعد قيادات الحزب الديمقراطي الأميركي الشهر المقبل للدخول بكامل قوتها في الحملات الانتخابية، ومع مؤشرات تؤكد أنها ستكون معركة قاسية، جاء الانقسام بين الجناح اليساري وقاعدة الوسط في الحزب حول الموقف من هذه الحرب، ليلقي بثقله على تحالفات لطالما لعبت دوراً أساسياً في تمكين مرشحي الحزب من الفوز في واحدة من أكبر المناطق الانتخابية في البلاد.
وأدّت حرب غزة إلى زعزعة استقرار الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي في نيويورك، في ظلّ التوترات التي تشهدها شوارع المدينة، من خلال المسيرات والاحتجاجات اليومية المناهضة للدعم الأميركي لحكومة بنيامين نتنياهو، والمؤيدة لها.
تظاهر آلاف الأشخاص، في بروكلين، كبرى دوائر مدينة نيويورك، معبرين عن غضبهم حيال القصف الإسرائيلي لقطاع غزة.
وتشهد نيويورك التي يقيم فيها 1.6 إلى مليون يهودي ومئات آلاف المسلمين، تظاهرات وتجمعات داعمة للفلسطينيين وأخرى لإسرائيل.
ويعرب ناشطون يهود أميركيون يساريون أيضاً عن معارضتهم للحرب التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة.
وصف أحد المسؤولين الديمقراطيين في المدينة ما جرى بأنه «زلزال فتح هوّة بين اليسار التقليدي وأقصى اليسار.
أميركا على مشارف المزيد من التشظي والانقسام والمجتمع الأميركي منقسم أصلاً وتأتي الحرب الإسرائيلية العدوانية على غزة لتعمِّق الانقسام على معظم الصعد، سياسياً ومجتمعياً، عقائدياً وفنياً، إعلامياً وأدبياً؟