لم يكن الغرب في أي يوم من الأيام، منذ أن تبنى قيام «كتيبة» متقدمة له في الشرق الأوسط شهر أيار من العام 1948، عارياً كما كان عليه يوم 7 تشرين أول المنصرم فصاعداً، فأن يعلن الغرب بأقطابه الكبرى، الولايات المتحدة- فرنسا – بريطانيا- ألمانيا، عن استعداده التام للمشاركة المباشرة في العمليات العسكرية التي دارت رحاها ما بعد هذا التاريخ الأخير من قوات الاحتلال الإسرائيلية ضد قطاع غزة، فذاك مؤشر ذو دلالات عديدة قد لا يكون كافيا معه القول بإحساسه، أي بإحساس الغرب، بأن «الكتيبة» باتت في وضعية مهددة بالزوال، والمؤكد هو أنه حتى لو تولد ذلك الإحساس في الذات الغربية إلا أن الأخيرة سارعت إلى التقاط اللحظة للاستثمار فيها على نحو ما حصل في «لحظة» 11 أيلول 2001 الأميركي، الذي كان يوم 7 تشرين الأول 2023 الإسرائيلي يمثل نظيراً له من دون شك.
المؤكد هو أن الغرب، شأنه في ذلك شأن كيان الاحتلال، تفاجأ فيما جرى يوم 7 تشرين الأول الماضي، لكن نصيحة الأول للأخير كانت تقوم على وجوب الاستثمار في الحدث بالدرجة نفسها الذي جرى فيه استثمار 11 أيلول الأميركي، وهو، أي الغرب، إذ عبر عن استعداده للمشاركة في عملية «الاستثمار» آنفة الذكر، مضى نحو تظهير جسره الثقافي والإيديولوجي الذي يربطه مع «الكتيبة» المتقدمة في محاولة منه لرسم معالم الصراع والحدود التي يمكن أن يصل إليها، وعلى الرغم من أن ذلك لم يأت بجديد مما يمكن لحظه عند كل القادة الغربيين الذين تناوبوا على السلطة منذ 1948، وكان آخرهم الرئيس الأميركي جو بايدن الذي قال بعيد اعتلائه السلطة في واشنطن مطلع العام 2021 بأنه «ليس على المرء أن يكون يهودياً بالضرورة لكي يكون صهيونياً»، لكن الجديد أظهر مزيداً من ذلك التماهي، فخلال زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لإسرائيل التي جاءت في أعقاب «طوفان الأقصى» يقول هذا الأخير بأن زيارته تلك تأتي بصفته يهودياً أولاً ثم بصفته كوزير للخارجية الأميركي ثانياً، ومن المؤكد هو أن كلام بلينكن فيه الكثير مما يشير إلى تغليب «الإيديولوجي» على «السياسي»، ويشير أيضاً إلى إصرار الغرب على إظهار حالة الانصهار التام، الثقافي- الإيديولوجي، بين نسيج الغرب ونسيج «كتيبته» المتقدمة.
تشير السلوكيات والممارسات التي ينتهجها كيان الاحتلال منذ 7 تشرين أول، وبدرجة فاقعة منذ 27 منه التي أعلن فيها عن بدء عمليته البرية لاقتحام غزة، إلى معطى يؤكد أن هذا الأخير قَبِل «النصيحة» تماماً، وأنه عازم، وبدعم غربي مطلق، على القيام بـ«نكبة» ثانية ترتسم مآلاتها عبر حزام النار والدم بدرجة تفوق نظائرها تلك التي قادت لحدوث الأولى ربيع العام 1948، وأن الهدف المعلن، الذي يقول بتفكيك «حماس» وشل قدراتها، ليس سوى الذريعة للوصول إلى الطبعة الثانية من «نكبة 48»، الأمر الذي، فيما لو حصل، فهو سيحقق، وفق الرؤية الإسرائيلية، إلغاء لدلالات 7 تشرين الأول أو على الأقل التقليل من مفاعيلها وتداعياتها المستقبلية على دواخل الكيان، ويحقق وفق الرؤية الغربية، مآرب عدة لعل أبرزها تحجيم دور إيران تمهيدا لإطباق فكي الكماشة حول المنطقة برمتها وخصوصاً بعدما فشلت واشنطن، خلال مؤتمر السلام المنعقد بالقاهرة يوم 21 تشرين أول، في استصدار بيان من الحضور يدين حركة «حماس» والاعتراف بـ«حق إسرائيل المطلق في الدفاع عن نفسها»، الأمر الذي قرأته واشنطن على محمل يؤكد أن الأنظمة العربية لا تزال تتحسب لمواقف شعوبها الرافضة لوجود هذا الكيان أصلاً، وأن الحسابات، أي حسابات الأنظمة العربية، لا تزال ترى أن من الصعب على أي حاكم عربي الإقدام على خطوة تأتي في سياق القبول بـ«إدانة» حق المقاومة عند الفلسطينيين، الأمر الذي دفع بالغرب، وأقطابه، لدعم وإسناد كل هذا التوحش الذي سيلقي بظلاله البعيدة على رسوم «الحضارة» الغربية التي ما انفكت تثبت، عبر أدائها وسلوكياتها، وجود تناقض كبير بين جانبها «القيمي» والأخلاقي، وبين جوانبها العلمية والتكنولوجية التي وصلت فيها إلى مطارح متقدمة جداً، والمؤكد هو أن ذلك التناقض سوف يرسم مسار ومصير تلك «الحضارة» بدرجة كبرى.
الآن يمكن القول إن الغرب يراهن تماماً على أن يكون بمقدور حاجز النار والدم رسم ملامح المنطقة من جديد على ضفاف الحرب بعدما تعذر رسمها عبر توافقات مع أنظمتها القائمة مما يمكن لحظه في مخرجات مؤتمر القاهرة لـ«السلام» آنف الذكر، ونتائج الحرب الدائرة في غزة ستكون الحاكمة لنجاح، أو فشل، تلك المحاولة التي لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، والراجح هنا هو أن الأخيرة لن تكون أكثر حظاً من سابقاتها في حرب الـ33 يوماً 2006 في لبنان وفي حرب الـ50 يوماً 2014 في غزة.
يقول وزير الحرب الإسرائيلي السابق موشي آرينز في معرض تقييمه للنتيجة التي آلت إليها حرب تموز في لبنان، «عندما يعجز جيش نظامي عن تحقيق أهدافه المعلنة بوجه ميليشيا فإنه يكون في وضع الهزيمة».
ومن المؤكد، طبقاً لهذه المعادلة، فإن حربي 2006 و2014 كانتا من حيث النتيجة هزيمة إسرائيلية واضحة المعالم تماما كما ستكون عليه الحال لحظة الإعلان عن وقف لإطلاق النار في الحرب الراهنة في غزة، مع فارق وحيد هو أن هذا الفعل الأخير سوف يطول لفترة تتعدى المدة الزمنية التي احتاجتها الحربان سابقتا الذكر لكي تضعا أوزارهما.