يضع المختصون بعلوم الحرب في موازين القوى بعد اندلاعها وفي أثنائها وعند وقف النار، عدداً من العوامل في كفة كل طرف بعد توقف العمليات، ومن هذه العوامل قدرة كل طرف على ضمان زيادة قوته في أثناء وقف النار واستمرار الارتقاء بمعنويته المتعاظمة وفاعليته داخل جبهته، وهذا العامل لا يتأثر أحياناً بنتائج الحرب في الميدان ما دام أن إيقاف النار قد جرى بشكل متوافق عليه ودون تحقيق أي طرف للحسم النهائي الميداني العسكري ضد الطرف الآخر.
واللافت في كل الحروب التي شنها الكيان الصهيوني في المنطقة أنه لم يتمكن من تحقيق أهدافه وخاصة عجزه عن فرض «الانتصار الحاسم» الذي يطلق عليه «الاستسلام النهائي للطرف الآخر» دون قيد أو شرط، بل إن أطراف المقاومة دولاً أو منظمات كانت تزيد من قوتها بعد كل جولة حربية ضد الكيان الإسرائيلي تنتهي باتفاق لوقف النار.
هذا ما كان يحدث منذ حرب حزيران عام 1967 التي تبعها بعد اتفاق وقف النار حرب استنزاف طويلة شنتها سورية ومصر والمقاومة توجت بحرب تشرين عام 1973 هُزمت فيها إسرائيل ميدانياً، إلى أن تحولت نتائجها إلى آفاق سلام منفرد أخرج مصر من ميدانها العسكري والسياسي وبقيت سورية ومعها المقاومة الفلسطينية مستمرة ميدانياً سياسياً، ثم جاءت حرب اجتياح لبنان عام 1982 التي جابهها الجيش السوري والمقاومة اللبنانية والفلسطينية على أرض لبنان 18 عاماً إلى أن دحرت جيش الاحتلال من كل لبنان وردته مهزوماً إلى كيانه حين حررت في عام 2000 جنوب لبنان، وفي حرب تموز 2006 دحرت المقاومة اللبنانية جيش الاحتلال مرة أخرى وردته مهزوماً عبر اتفاق لوقف النار دون أن يحقق أهدافه ودون ما يسمى بـ«النصر الحاسم» ضد المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله.
وفي 24 شباط عام 2019 كشفت صحيفة «يسرائيل هايوم» أن رئيس أركان جيش الاحتلال أفيف كوخافي، في ذلك الوقت، شكل لجنة عسكرية وأمنية موسعة ضمت عمداء في الجيش لمناقشة موضوع تعريف الانتصار وكيفية العمل على تحقيقه في «ظروف التغيرات التي طرأت على طبيعة العدو والتطورات التكنولوجية العسكرية» وطلب من هذه اللجنة الموسعة تشكيل لجان فرعية تنجز كل ما تكلف به لتحقيق المطلوب، ومع ذلك بقي الكيان عاجزاً عن تحقيق حلمه «بالانتصار الحاسم» طوال 75 عاماً من الحروب، بل إنه في واقع الأمر لم يستطع أيضاً تحقيق ما يطلــق عليــه «الردع الحاسم أو النســبي» في أعقاب كل حرب كـان يشنها منذ عام 1967 حتى الآن، وبعــد أربع حروب استهدف فيها قطاع غزة منذ عام 2008 حتى آخــر حروبــه الأكثر وحشــية بعــد السابع من تشرين الأول 2023 رداً على عملية «طوفان الأقصى».
ايتان شامير مسؤول سابق في دائرة الأمن القومي في وزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية نشر في عام 2017 دراسة موسعة بالعبرية في مركز «بيغين-السادات» للدراسات الإستراتيجية تحت عنوان «التغير في مفهوم الأمن: ومراجعته في ظل جوار متغير» جاء فيها: «إن مركزية مفهوم الردع مستمدة من الوضع الجغرافي الإستراتيجي الذي ساد في عهد رئيس وزراء إسرائيل الأسبق ديفيد بن غوريون عندما وضع مبادئ مفهوم الأمن الإسرائيلي ولم تتغير منذ عهده بشكل جوهري، لكن مركزية الردع لم تتضاءل أهميتها أو تتغير بشكل كبير منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، ولا تزال إسرائيل محاطة ببيئة معادية سياسياً وأيديولوجياً، وما زال هذا العداء يترجم بعنف. وحتى اليوم، لا تملك إسرائيل ذلك العمق الإستراتيجي، ولا تزال النسبة الديموغرافية المحيطة حولها لم تتغير بشكل جذري».
فالردع بالمفهوم الإسرائيلي هو «منع أي شكل من زيادة قدرة الأعداء بعد كل حرب تنتهي بإيقاف النار دون الحسم الإسرائيلي»، ولا شك أن المقاومة وحلفاءها كانوا يحققون هزيمة الكيان في كل لحظة حين ينجحون في زيادة قدراتهم، وهذا ما جرى في جنوب لبنان وفي قطاع غزة وفي سورية وإيران والعراق، وهذه النتيجة وحدها شكلت انتصاراً بارزاً بصمود الشعب داخل قطاعه المحرر المحاصر الضيق طوال 16 عاماً صنع خلالها ترسانته المسلحة وخاض فيها خمس حروب شنها العدو الصهيوني عليه منذ عام 2008 دون أن يحقق ما يطلق عليه «الانتصار الحاسم» ولا «الردع الحاسم أو النسبي»، والمعركة لا تزال مستمرة منذ عدوان 1967 من أجل استعادة فلسطين والجولان العربي السوري ومزارع شبعا اللبنانية.