قبيل أن يحط وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن رحاله في المنطقة يوم الجمعة 3 تشرين الثاني الجاري للقاء قادة الاحتلال ومن ثم الاجتماع بنظرائه العرب الستة الذي جرى في عمان اليوم التالي لهذا اليوم الأخير، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريراً مطولاً عن آفاق تلك الزيارة وماهية النتائج التي يمكن أن تفضي إليها، وفيه وصفت الصحيفة مهمة الوزير الأميركي بـ«الدبلوماسية الحساسة» التي «سيضغط من خلالها لإقرار هدنة إنسانية» لكن مع «تأكيد دعم الولايات المتحدة للحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة» من جهة، ومن جهة ثانية «الضغط على قادة إسرائيل لبذل المزيد من الجهد لحماية الفلسطينيين»، مع الإشارة أيضاً إلى أن مهام بلينكن ستشمل «منع اتساع رقعة الحرب، وفتح جبهات جديدة لها»، وفي الشق الثاني المتعلق بماهية النتائج المحتملة يقول التقرير نقلاً عن مسؤول عسكري إسرائيلي، لم يرد ذكر اسمه كما يقول هذا الأخير، أنه يشك في وجود «قدر كاف من الوقت» أمام قواته «لإنجاز أهدافها المعلنة في غزة» في ظل ما وصفه بـ«تحول اتجاهات الرأي العام الدولي بشكل حاد مناهض لإسرائيل».
في حين أشارت صحيفة «واشنطن بوست» في تقرير لها استبقت فيه زيارة الوزير الأميركي أيضاً وقالت فيه إن بلينكن سيزور منطقة الشرق الأوسط ليعرب للمسؤولين الإسرائيليين عن «مخاوف متزايدة في واشنطن من أن الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية قد تقوض مصالح إسرائيل الأمنية»، وكذا سيعمل على «تدارس خطط طويلة المدى حول السؤال الشائك المتعلق بإدارة قطاع غزة» في فترة ما بعد الحرب وفقاً لما ورد في التقرير الذي أضاف أيضاً في هذا السياق أن بلينكن سيبحث في «أفكار ومقترحات على المدى الطويل متمحورة حول إذا ما كان حل الدولتين الذي تدعمه الولايات المتحدة لحل الصراع ما زال ممكناً».
مثل هذه المعطيات تشير إلى أن ثمة تحولاً في اللهجة الأميركية تجاه الحرب الدائرة في غزة منذ 7 تشرين الأول الماضي، وهي تمهد لإمكان ذهاب واشنطن نحو فرض معالجات جديدة تختلف، ولو بشكل جزئي، عن تلك التي أعلنتها تلك الأخيرة بعد ساعات من الإعلان عن انطلاق عملية «طوفان الأقصى» التي وضعتها بصورة تشي أن الحرب حربها قبل أن تكون حرب أي أحد آخر، وإذا ما كان المؤتمر الصحفي الذي عقده بلينكن إلى جانب نظيريه المصري والأردني في أعقاب اجتماعه بـ«مجموعة الستة» يوم السبت الماضي لم يظهر بشكل واضح المداولات التي دارت في ذلك الاجتماع، فقد كان الحذر الذي أبداه الثلاثة، بلينكن وسامح شكري وأيمن الصفدي واضحاً بدرجة لافتة، وإن كان المشهد من النوع الراسم للوحة مفادها أن ما اختلِف حوله هو أكبر بكثير مما اتفِق عليه.
واقع الأمر هو أن مرد التغير الحاصل في اللهجة الأميركية يعود لأسباب عدة في الذروة، منها الصمود الأسطوري لقطاع غزة ومدى التلاحم الذي أبدته نسج هذا الأخير فيما بينها حتى بات من اليقين استحالة الفصل فيما بينها أيا تكن الوسائل المستخدمة لتحقيق مثل مرمى كهذا، ومنها، أي من تلك الأسباب، هي الانزياحات الوازنة في الرأي العام الدولي تجاه المجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين التي لم تستطع حتى الآن فرض رقم جديد على معادلة الصراع عنوانه عامل الوقت الذي بدا يضيق أمام الولايات المتحدة، لكنها ستفعل بالتأكيد على وقع حجم الاحتقان الداخلي لكيان الاحتلال الذي يغذي نزعة لدى قادته قوامها ممارسة القتل، وليس القتال.
قد لا يكون ذلك كله كافياً الآن لرسم ملامح مرحلة ما بعد الحرب، والمؤكد هو أن «جنينها» الوحيد القابل للحياة حتى الآن لا يزال يستوطن رحم الفصائل التي اختارت القتال من «المسافة صفر» ولم تهتز أياديها تجاه ذلك الخيار حتى لتبدو، هذي الأخيرة «باردة» جداً بعكس حال نظيرتها عند المحتمين داخل العربات المصفحة، والمؤكد أيضاً أن سعي الأطراف الباحثة عن حلول سوف يكون أشبه بالعمل على طي الجمر تحت الرماد إذا ما قرروا استبعاد أولئك عن تلك الحلول، فيصبح الفعل أشبه بإعطاء «مسكن» لمريض يعاني مرضاً مزمناً لن تلبث خلايا «المرض» أن تعاود نشاطها من جديد بمجرد أن تستكمل شروط الفعل آنف الذكر.
من حيث البعد الاستراتيجي لعملية «طوفان الأقصى» يمكن القول إن الحرب بدأت يوم 7 تشرين الأول وانتهت فيه أيضاً، وأي إغفال لهذا البعد لن يراكم، في مسعى الحلول، سوى المزيد من «عمليات الطوفان» المقبلة التي ستكون على موعد مع اجتراحات جديدة تثبت تماماً، كما أثبتت العملية الأخيرة، خطأ الرهان على القوة وعلى تقدم التكنولوجيا كضامنين كافيين لاستحضار الأمن والاستقرار.