ثقافة وفن

«وحدي» عظمة بليغ والبساطة

| إسماعيل مروة 

صديق وضع تسجيلاً لأغنية وجدانية رائعة لعفاف راضي «وحدي» وجدتني أنقر على الأغنية في حفلة فريدة بالأسود والأبيض، وعدت إلى ذلك الذي كنته ببراءته وطموحاته المحدودة قبل ما يزيد عن ثلاثة عقود عندما صدرت هذه الأغنية مع مجموعة من أجمل الأغنيات للصوت الأوبرالي المميز عفاف راضي، فقد اختارها المبدع الراحل بليغ حمدي وخاض معها رهاناً خاصاً بالأغنية العاطفية التي تنحو نحو الغناء الأوبرالي، لصبية تتدرب على غناء الأوبرا.
وقدم لها بليغ حمدي بالتعاون مع الكاتب الغنائي عبد الرحيم منصور مجموعة من الأغنيات المتفردة في الغناء العربي، ومنها أغنية «وحدي» ولم أكن لأتخيل أن هذه الأغنية ستحمل لي شجوناً كثيرة، فالأحلام والطموحات التي كانت في بداية الثمانينيات كانت أكثر صدقاً من الزيف الذي نحياه اليوم، والأمنيات والأحلام البسيطة قد تلبس إنساناً، وقد تلبس وطناً، وقد تكتفي بالذات «مش عايزة القمر، عايزة اسمع خبر»، فالقمر بما يمثله من رمز، ومن تحليق بالأمنيات والطموح لم يكن شيئاً للشاعر، فكل ما يحلم به حياة هادئة مع من يحب، وهل يكون ذلك دون حب ووطن وأمان؟! وما قيمة القمر الذي يبزغ في سمائنا ونحن غير قادرين على الاستمتاع به والسهر له والتغني به؟!.
لكن ما أثار الانتباه هو ذلك الإخلاص في الرهان، فقد جاءت الكاميرا من الخلف ليظهر قائد الفرقة التي تعزف للشابة المغامرة آنذاك قصير القامة، مألوف الشكل، وعندما التقطت وجهه كان بليغ نفسه هو الذي لحن، وهو الذي يقود الفرقة بنفسه، وكأنه يريد أموراً كثيرة، أن يزرع الاطمئنان في قلب الشابة على المسرح وهي ترى تلويحة يديه، وإشارات رأسه العبقري، لتستمد منه الشجن والتجويد والآه للوصول إلى قمة أرادها من موسيقاه، ولعله أراد أن يكون شريكاً على المسرح في الرهان فيناله ما ينال الصوت الجديد من إيجاب وسلب، ولعلها المسؤولية التي تمتع بها صاحب النشيد الوطني لشادية يا حبيبتي يا مصر، الذي اعتصر فيه الشاعر الكبير محمد حمزة خلاصة حبه ووجدانه للأرض ومصر، فكان نشيداً لا يشبه الأناشيد..
أستحضر ذلك العام الذي شدت فيه عفاف راضي من ألحان بليغ حمدي ومن روحه، وكأنها كانت تقول لبليغ الذي أسبغ على صوتها والغناء والوطن أجمل الألحان (راح.. وقالوا راح.. كان نفسي أقولّه مع السلامة عشان ارتاح!..) ربما لم تتمكن عفاف راضي من القول مع السلامة لبليغها وبليغ الأغنية العربية، ولكنها صمتت بعد الرحيل لتقول: إن الجوهرة لمكتشفها، وإن علقت في رقاب المترفين، إلا أن حنينها للأصابع التي اكتشفت وجلت محاسنها، وجعلتها كريمة وثروة..
شكراً لصديقي عمر الذي أعاد هذه الأغنية إلى ذاكرتي، أراد أن يعبر عن وحدته في البيت، فكانت بادرته أكثر من جميلة، أعادتني إلى الأيام البسيطة التي كانت، وليتها بقيت.. كاسك يا وطن على مسرح العمال، ميادة الحناوي في شيراتون، وبليغ حمدي يرقب نجاحاً آخر في أثناء إقامته بدمشق..
إلى روح بليغ حمدي العملاق الذي أحب كما لم يفعل غيره، وتماهى في جنون إبداعه، ولم تفارقه لوثة الإبداع العظيم، وهو يرفض الأقمار والأماكن البعيدة ليقترب من الخبر القادم من حب ووطن.. وتبقى أنشودة الأبنودي حاضرة (وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها) كذلك قال الخال الأبنودي قبل أن ينطمر حباً في الصعيد الذي هو.. فسحة من الصخب والدمار، لكنها لم تستطع أن تخرج من الانتماء لوطن فاق القمر.. إنه شام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن