يدخل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شهره الثاني في ظل تصاعد وتيرة هذا العدوان الهمجي من خلال استهداف القطاع بأسلحة محرمة دولياً وكميات من المتفجرات تجاوزت ما يقدر بقنبلتين نوويتين وفق تقدير قدمه المركز الأورو- متوسطي لحقوق الإنسان، أدت لارتكاب قوات الاحتلال ما يقارب من 1100 مجزرة استشهد خلالها أكثر من 11 ألف شهيد، جلهم من الأطفال والنساء الذين باتوا مجرد أرقام لعداد الموت الذي تتسارع قفزاته على شاشة وسائل الإعلام المختلفة للإعلان عنهم، وملفاً ضمن ملفات الساسة الإقليمين والدوليين للاستثمار بهم في اجتماعاتهم الدبلوماسية أو تصريحاتهم الإعلامية.
على الرغم من هذه الحالة السوداوية التي باتت تشكل كارثة إنسانية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، مازالت مفاعيل الحل السياسي للحد من هذا العدوان وإيقافه غائبة ويعتريها الكثير من الضبابية وانسداد الأفق، نتيجة عوامل عدة تتعلق منها بأهداف ومصالح شخصية سعى لها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وبعض شركائه المتطرفين، وأخرى تتعلق بتمسك كل من قوات الاحتلال ومن خلفها حكومة الحرب وكذلك فصائل المقاومة بشروطهم، فضلاً عن الانقسام الدولي حول الموقف من قضية الصراع، وهو ما أدى لشل دور المنظمات الدولية وغير الدولية للقيام بمهامها ومسؤولياتها السياسية والإنسانية، بسبب استمرار الغرب في تقديم الدعم المفرط لهذا الكيان ومنحه الغطاء السياسي لارتكاب أفظع المجازر في تاريخ عصرنا السياسي.
والمتابع لكل الاجتماعات والاتصالات الدبلوماسية التي تشهدها المنطقة والنظام الدولي على المستويات الثنائية كافة، يلحظ غياب رؤية واضحة لمعالم الحل، وإن كانت هناك محاولات لطرح عناوين تحت مسمى «الهدن الإنسانية» لساعات معدودة، فإنها لا تشكل مساراً جدياً لوقف العدوان، لكونها تمنح قطاع غزة أو بعض أجزاء منه استراحة مؤقتة من تعرضه للمجازر الإسرائيلية لمدة لا تتجاوز الساعات يومياً، ما يجعلها بمنزلة مناورة تهدف لمنح الكيان الصهيوني المزيد من الوقت وفق غطاء دولي لارتكاب المزيد من المجازر تجاه الفلسطينيين إلى جانب الاستمرار بسياسة الأرض المحروقة من خلال تبني هذه «الهدن الإنسانية».
كما يبدو لافتاً بهذا التوقيت السياسي طرح الكيان المغتصب والولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية ما يسمى التوصل لحل الدولتين، وهو الحل الذي رفضت حكومة الاحتلال تطبيق القرارات الدولية التي نصت عليه سابقاً، إلا أن حل الدولتين هنا مشروط من قبل تل أبيب وواشنطن وبعض العواصم الأوروبية بالقضاء على فصائل المقاومة أو أي من التعبيرات الفدائية المسلحة، وهو ما يعني محاولة لإدخال الفلسطينيين في صراع سياسي وأمني وعسكري لطالما كان سبباً في الانقسام الذي كان حاصلاً بدعم من العقلية الصهيونية التي أفرغت مضامين كل إنجازات المقاومة العسكرية منذ عدوان عام 2014 حتى معركة ثأر الأحرار.
إلى جانب ذلك، تم طرح مشروع بيروت لعام 1982، وأدى لترحيل قوات منظمة التحرير من لبنان إلى تونس، وكذلك مشروع نشر قوات حفظ سلام عربية ودولية في قطاع غزة بهدف تقسيم القطاع وإنشاء مناطق عازلة داخله بمسافة تتروح بين 3-6 كيلومترات، وجعل فصائل المقاومة في مواجهة مع هذه القوات، هذه المشاريع وغيرها التي باتت تسود مناقشات الغرف المغلقة جاءت بعد النكسة التي تعرض لها المشروع الإسرائيلي في تهجير أهالي قطاع غزة، نتيجة الرفض الفلسطيني والإقليمي له، ومع ذلك فإن هذا المشروع الذي كانت قد قدمته وزارة الاستخبارات الإسرائيلية إلى المؤسستين السياسية والعسكرية مازالت مفاعيله قائمة، ولاسيما من خلال تطبيقه كأمر واقع، إذ إن هذا الكيان نفذ المرحلة الأولى بعد إجبار معظم أهالي قطاع غزة للنزوح جنوباً بعد تدمير معظم الأبنية السكنية والبنى التحتية في شمال القطاع، وقد يلجأ هذا الكيان إلى إجبار الأهالي نتيجة ارتكاب المزيد من المجاز في الجنوب وتغيب أي وسيلة من وسائل الحياة الأساسية، للجوء بشكل جماعي نحو معبر رفح، قبل إجبارهم للانتقال تحت رقعة الاستهداف العسكري للانتقال باتجاه سيناء.
بالعموم وبعيداً عن التهويل والتشاؤم، فإن مؤشرات غياب فعالية الحلول السياسية لوقف العدوان الإسرائيلي المفتوح على قطاع غزة تعود لمجموعة من العوامل والظروف التي يمكن سردها وفق المستويات الآتية:
أولاً- على صعيد الكيان الإسرائيلي، فإن أي حل سياسي بمبادرة أميركية أو غيرها، دون تحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي تبنتها حكومة بنيامين نتنياهو الحربية، فإن ذلك يعني نهاية الحياة السياسية لنتنياهو، واحتمال دخول الكيان في حرب داخلية وخاصة أنه تم إسقاط حكومة اليمين المتطرف، إذ قد يلجأ أبرز أركانها أمثال وزير الأمن إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتس لدفع أنصارهم للاحتجاج والتظاهر، وهؤلاء بات معظمهم مسلحاً ويرفض أي حل سياسي مع الفلسطينيين، ولعل عدم قدرة نتنياهو على إقالة وزير التراث الإسرائيلي عميحاي الياهو، الذي دعا لقصف غزة بالقنبلة النووية، خير دليل على خشية نتنياهو من فقدان دعم اليمين المتطرف له، ومن تزايد واقع الاحتجاجات التي تشهدها الأراضي المحتلة والتي تحمله مسؤولية ما حصل في السابع من تشرين الأول الماضي، إلى جانب ذلك فإن وضعية الكيان ضمن قواعد الاشتباك في المنطقة ستكون محرجة، فعدم تحقيق أي من الأهداف التي أعلنت عنها حكومة الحرب من القضاء على حماس وتدمير قدراتها الصاروخية واستهداف أبرز قادتها وفي مقدمتهم يحيى السينوار وإخراج كل الأسرى بمن فيهم العسكريون، غالباً أنها ستضع هذا الكيان ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية في وضعية حرجة وغير مناسبة من حيث القدرة والمكانة والتأثير والهيبة الاستراتيجية.
ثانياً- أما على صعيد الفصائل الفلسطينية، فإن قبولها بأي حل لا يتضمن كسر الحصار عن غزة وتبييض السجون الإسرائيلية وغياب وجود أي ضمانات حول عدم استباحة المناطق المقدسة بما في ذلك المسجد الأقصى، يعني كأن كل تضحيات الشعب الفلسطيني وصمود أهالي غزة وتضحياتهم، ستندثر من دون أي فائدة، وهو ما قد يحول القطاع إلى منطقة معزولة مهدمة وسط كارثة استنزاف مستمرة وفق الأهواء والإدارة الإسرائيلية، إن لم نقل إن الحاضنة الشعبية قد تتحول لعامل ضغط عليهم وتوجيه اللوم لهم بكل ما حصل من قتل وتدمير وتشرد دون أي نتائج تذكر.
ثالثاً- على المستويين الإقليمي والدولي، يبدو جلياً أنه حتى إعداد هذا المقال، لم تتخذ أي من الفواعل والقوى السياسية الإقليمية والدولية أي خطوات جدية تلزم هذا الكيان بوقف اعتدائه المفتوح على غزة – باستثناء حزب الله الذي تمكن من مشاغلة العدو وخفف الضغط على قطاع غزة ودخل الحرب بشكل تدريجي ومتصاعد وحافظ على قواعد الاشتباك دون السماح لقوات الاحتلال من تغييرها إلى جانب ما تقوم به الفصائل العراقية المقاومة من استهدافات عسكرية ضد القواعد الأميركية في العراق وسورية فضلاً عن الصواريخ والطائرات المسيرة اليمنية، إلا أن ذلك لم يعد كافياً، ومازالت الدول الإقليمية وخاصة العربية تمتلك تأثيراً أكبر يمكن استخدامه، وخاصة السلاح الاقتصادي المتمثل في النفط والمواقع الحيوية التي تشرف عليها وتديرها والمقاطعة التي يمكن أن تنعكس سلباً على الشركات الأميركية، وما يرسخ الدور الخجول للدول العربية هو تحديد موعد قمتهم المستعجلة بشأن غزة بعد ما يزيد على شهر من بدء عملية «طوفان الأقصى» والمزمع عقدها السبت المقبل في السعودية.
على حين أن الدور الدولي المنقسم على ذاته تبعاً لأهداف وصراعات جيواستراتيجية، أمسى في حالة تبلور حتى باتت صورة هذا الانقسام ضمن محورين من خلال جلسات مجلس الأمن التي فشلت في التوصل لقرار توافقي لإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة، واستشعار المحور الرافض لهذا العدوان وخاصة الصين وروسيا، مخاطر الحشد الغربي لقواتهم في البحر المتوسط، على حين أن الولايات المتحدة الأميركية التي مازالت تصر على تعزيز قواتها بالمنطقة بذريعة ردع أي تصعيد ممكن، وكان آخر صور هذا التعزيز يتمثل في إرسال غواصة «أوهايو» المعروفة بشبح البحار أيضاً، تستمر في تقديم الدعم المادي والعسكري للكيان والذي كان آخره ما كشفته صحيفة «وول ستريت جورنال» عن تخطيط الولايات المتحدة لنقل قنابل دقيقة التوجيه إلى إسرائيل بقيمة 320 مليون دولار، رغم ازدياد واقع الرفض الشعبي والنخبوي والمؤسساتي لهذا الدعم المفرط، إذ بينت الوثيقة التي قدمها بعض موظفي الخارجية الأميركية والمعبرة عن رفضهم لهذا الدعم مدى الانقسام المؤسساتي الأميركي في تبني محددات السياسة الخارجية الأميركية الداعمة لهذا الكيان بشكل مفرط، كما أن التوجه السياسي الأوروبي لدعم الكيان بغض النظر عن التظاهرات الرافضة لذلك، تؤكد حقيقة أن ما يسمى إسرائيل بالنسبة لهذه الدول هو امتداد الحيوي لتنفيذ مشاريعها الاستعمارية بهذه المنطقة.
من يتابع الغزل المتبادل للساسة الغربيين تجاه الكيان ومسؤوليه، يدرك هذه الحقيقية، وهو ما يفسر تصريحات نتنياهو الأخيرة عندما قال: «إذا سقط الشرق الأوسط في يد محور الإرهاب فستكون أوروبا هي التالية ولن يكون أحد آمناً» وفق زعمه، معتبراً هذه المعركة «عالمية وليست محلية» ومطالباً وفق تصريحه «كل القوى الحضارية أن تسانده لأن معركته هي معركتهم وانتصاره هو انتصار لهم».
ختاماً، لابد من التأكيد أن العمى الغربي في تجاهل مخاطر ما يحصل من مجازر وعربدة إسرائيلية على مستوى المنطقة واستمرار إغداق الدعم غير المحدود لهذا الكيان، واللا مبالاة في الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني ومقاومته الشرعية، وعدم وضع حد لليمين المتطرف في الكيان بشكل عام ولنتنياهو الساعي للتحالف مع الشيطان لتحقيق مصالحه الشخصية بشكل خاص، قد تدفع المنطقة نحو انزلاق استراتيجي وإن اتخذ مساراً تدريجياً وبطيئاً، فستكون تداعياته أكبر بكثير من الأزمة الأوكرانية.