قضايا وآراء

وصمة عار!

| د. بسام أبو عبد الله

ليست هي المرة الأولى التي يكذب فيها الغرب الجماعي فيما يتعلق بقضايا منطقتنا، والحديث عما يسميه حق الدفاع عن النفس لإسرائيل، وكأن قوات الاحتلال يحق لها الدفاع عن نفسها ضد من تحتلهم وتضطهدهم وتقتلهم وتحاصرهم وتجوعهم، وتعمل على تدمير أسس حياتهم الإنسانية.

إذا كانت الذاكرة قصيرة دعوني أذكركم بملف أسلحة الدمار الشامل في العراق، ومشهد وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول في الخامس من شباط 2003، حينما قال أمام مجلس الأمن الدولي بالحرف: «ما نقدمه لكم هي حقائق واستنتاجات مبنية على استخبارات قوية تؤكد امتلاك العراق أسلحة دمار شامل»، كان يجلس خلفه آنذاك مدير وكالة الاستخبارات الأميركية جورج تينيت، وقام باول برفع أنبوبته الشهيرة التي كانت تحوي مسحوقاً أبيض إشارة للجمرة الخبيثة، وصوراً لأقمار اصطناعية، وأكد أن هذه الأدلة لا يمكن دحضها، مطالباً مجلس الأمن منح الولايات المتحدة الضوء الأخضر للقيام بعمل عسكري ضد العراق.

بعد عامين تقريباً من احتلال العراق، وإسقاط النظام العراقي قال كولن باول إن ما فعله في مجلس الأمن وخطابه ذاك سيظل «وصمة عار في مسيرته السياسية»، وأضاف: «إنه فعلاً نقطة سوداء لأنني كنت أنا الذي قدمته باسم الولايات المتحدة إلى العالم، وسيظل ذلك جزءاً من حصيلتي».

الإعلام الأميركي وصف ما حدث بأنه «كذبة القرن» رغم أن هذا الإعلام كان آلة الحرب الأخرى التي روجت للرأي العام داخل الولايات المتحدة وخارجها لكذبة القرن، أي إنه إعلام كاذب منافق، لا يستند إلى أي قيم أو مبادئ أو حرية أو موضوعية، كما سوقوا لنا لعقود وقرون من الزمن، وطلبوا منا أن نقتدي بمدارسه، ونتعلم منه معنى الحرية والرأي الآخر والانفتاح والديمقراطية، وكنا نجلد الذات صباح مساء، ونطرح السؤال: متى نصبح مثلهم ونتطور، ومتى نصل إلى رُقيهم، وإنسانيتهم المرهفة وإعلامهم المتطور؟ هكذا كان كثيرون يطرحون الأسئلة بغزارة، ويطلبون بإلحاح أن نتطور لنصبح مثلهم وعلى شاكلتهم!

الحالة السورية كانت أنموذجاً آخر لوصمة العار الغربية وأذرعها في المنطقة حينما روجت لكذبة القرن الأخرى: أظافر الأطفال في درعا، من دون أن يسأل أحد ما عن الأدلة والبراهين، وسوقوا هذه الكذبة، كما سوقوا الكذبة المتعلقة باستخدام الكيميائي، وزوروا التقارير الدولية ذات العلاقة، مستندين إلى شخصيات مثل كولن باول تستطيع أن تحلف أغلظ الإيمان بأنه تم استخدام هذا السلاح بالاعتماد على منظمة استخباراتية بريطانية اسمها «الخوذ البيضاء»، وعلى مرصد لحقوق الإنسان يقوده شخص شبه متعلم وفاشل، ليحدد ماذا على العالم أن يفعل تجاه سورية؟

نحتاج لمجلدات كي نكتب عن وصمات العار الغربية في الحالة السورية في السياسة والإعلام، وحبال الكذب والألاعيب التي كانت تستخدم في أهم وسائل الإعلام الغربية وأكثرها شهرة تجاه بلدنا وشعبنا ورئيسنا.

لن أتحدث عن كذبة القرن، ووصمة العار في ليبيا مثلاً، وشن العدوان عليها، ونشر التطرف والإرهاب، ولن أتحدث عن الصهيوني برنارد ليفي ملهم ثوار «الربيع العربي»، الذي كان يرافقهم من ليبيا إلى سورية، ويحرضهم على تدمير بلادهم، وسرقة قوت شعبهم، والعمل كأجراء لدى قوى الاحتلال، وكمجرمين ومرتزقة لدى حلف الناتو، ولدى إسرائيل، لذلك فإن مقاومة الشعب السوري وتضحياته الهائلة سيذكرها التاريخ كثيراً كجزء أساسي من مواجهة قوى الاحتلال والهيمنة.

الآن يعود هذا الغرب الجماعي لممارسة حفلة الكذب والخداع نفسها لكن في فلسطين، وفي قطاع غزة، على وقع إبادة جماعية، وتطهير عرقي، وتدمير شامل، دون أن يرف له جفن بوجوه جديدة مثل: الرئيس الأميركي جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز، ومستشار الرئيس الأميركي لشؤون أمن الطاقة العالمي عاموس هوكشتاين، والمستشار السابق للبنتاغون دوغلاس ماكغريغور، والمتحدث بالبيت الأبيض جون كيربي، ووزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، وغيرهم كثيرون، ليعيد علينا الأسطوانة نفسها التي سمعناها سابقاً، أي قطع رؤوس أطفال إسرائيليين من قبل المقاومة، ويكرر القصة مسؤولون أميركيون وصحافتهم، ثم يشيرون إلى نفيها لعدم توافر الأدلة، وتعود جوقة الكذابين مع صحافتهم للترويج لقصف المشفى المعمداني بأنه بصاروخ عن طريق الخطأ، ثم يصمتون لأن الأدلة العلمية تظهر بوضوح من قصف المشفى، ونوع القنبلة ووزنها، أي جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهكذا دواليك تستمر آلات الكذب الإعلامية الغربية بنسج الروايات تلو الأخرى بهدف تبرير ما تقوم به إسرائيل من أعمال فاشية عنصرية إجرامية دون أي رادع.

لقد وصل الأمر بالغرب لأن يسكت عن تصريح وزير في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تطالب باستخدام السلاح النووي ضد الشعب الفلسطيني في غزة لإبادته كاملاً، من دون أن تطالب أي دولة غربية الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتحقيق في الأمر، وإرسال المفتشين الدوليين، ولا يكفي هنا تبرؤ نتنياهو، واعتبار الكلام بأنه غير مسؤول، لأنه إذا كان هذا هو مستوى الوزراء الذين يقودون هذا العدوان، ومستوى تفكيرهم، وسلوكهم، فهذه كارثة أخرى، وأمر خطير، لأن وزيراً آخر في الحكومة نفسها قال علناً إنه يتعامل مع «حيوانات بشرية» ويقصد الفلسطينيين، واستخدام السلاح النووي ضد الحيوانات ممكن كحقل تجارب كما يرى الفاشيون الصهاينة وداعموهم.

إن ما نتابعه من دعوات لـ«هدن إنسانية» أو تكتيكية، هو مصطلح غريب عجيب، إذ إن الهدف منه واضح وجلي، وهو تغطية شراكة الولايات المتحدة في حفلة القتل الجماعي، والإبادة التي تتم للفلسطينيين في غزة، والضفة الغربية، وفي كل أنحاء فلسطين التاريخية، إذ كيف يمكن فهم هذه الإنسانية التي تدخل بعض الدعم الإنساني بالقطارة لأهالي غزة، وفي الوقت نفسه تُقر موازنة قدرها 342 مليون دولار لإسرائيل لشراء قنابل أميركية الصنع كي تقتل الفلسطينيين الذين نطالب لهم بهدنة إنسانية! بالله عليكم ما هذا الهراء، وما هذا الكذب، أليست هذه وصمة عار أخرى إضافية؟!

الحقيقة التي يجب أن نؤكدها هي التي أشار إليها الرئيس بشار الأسد في حديثه الأخير لكوادر وزارة الخارجية في 26 تشرين الأول 2023 حينما أكد أن «اتهام الغرب وأميركا بالتعامل على أساس المعايير المزدوجة هو اتهام غير دقيق، والصحيح أن الغرب وأميركا ينتهجون معياراً واحداً في سياستهم، وهو الانحياز الدائم لمصالحهم على حساب مصالح الشعوب والدول الأخرى، ولعل ذلك أحد أبرز الأسباب التي تشكل الصراعات في مناطق كثيرة في العالم، ومن بينها منطقتنا التي تشهد الآن حرباً على غزة، تمثل أنموذجاً صارخاً لهذا الانحياز».

إن وصمات العار التي أشرت إليها في مقالي لا يرونها في الغرب كذلك لأنهم يعيشون حالة انحطاط ليس فقط على المستوى الأخلاقي، إنما حتى على المستوى الفكري، كما يشير الرئيس الأسد في موضع آخر، ويأتي الإعلام الغربي ليظهر هذه السطحية، والعنصرية ويرفقها بحبال الأكاذيب والادعاءات المنافقة.

وصمة العار الحقيقية هي تلك التي تتعلق بنا، عندما لا نفهم هذا الغرب المتراجع والآفل، ويعود بعض السطحيين لتبجيله وتبرير أفعاله، ووصمة العار الأخرى إذا لم ندرك أن المقاومة وحدها هي طريق خلاصنا نحو الحرية والاستقلال الحقيقي والسيادة الوطنية، ودون ذلك فإن المخطط الموضوع يهدف لإبادة جماعية ليس للفلسطينيين كما نرى الآن، بل لكل العرب جميعهم، بلداً بلداً، نساءً وأطفالاً وشيوخاً، والتاريخ لن يرحم أبداً أولئك الذين ينسون أو يتناسون ما تقوله إمبراطورية الأكاذيب كما سمتها الصين، منذ عقود من الزمن.

الوقت حان لمعرفة طريق بناء المصالح الحقيقي الذي يقوم على احترام أنفسنا أولاً، والخلاص من العبودية للغرب صاحب وصمات العار الكثيرة، والتي لا تخجله أبداً لأنه قادر على استبدال الوجوه من كولن باول إلى أنتوني بلينكن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن