قضايا وآراء

«فلسطين: سيقولون لم نكن نعرف»

| السفير ميشيل رامبو

صديقي القارئ، لاحظتم في هذا الخريف المشؤوم تدفق الدعاية الحربية المضللة في «ديمقراطيتنا الكبيرة»، فأصبحت المحطات التلفزيونية ومقالات الصحف الكبرى مثل مفترق الطرق، وبات من الممكن أن يخفي النقاش حول الحرب بين إسرائيل وحماس نقاشاً آخر بين حماس وإسرائيل، وتفرض محاكم التفتيش المهووسة خصمين اثنين، يحظى الأول بالشرعية الكاملة وتنصب اللعنات على الثاني، و«يُنصح» بتفضيل الأول منذ بداية الحديث.

سُيفضل البعض عدم ذكر اسم الشيطان لكي يتجنبوا المتاعب، وأغلبهم متواطئ مهما كان اسم المحطة أو الوسيلة الإعلامية، ولا يهم تفاهة هذا الكلام الفارغ، لأن الهدف ليس إيصال المعلومة بل تأييد معتقدات مختزلة وصياغة آراء الغنم في «القطيع الغربي»، الأمر الذي لا يُبشر بالخير إطلاقاً حول الحفاظ على الحريات الأساسية في بلد الأنوار أو احترام حقوق الإنسان والمواطن في البلد الذي يدعي أنه وطنها.

إذاً، هذه المعتقدات تختزل النزاعات بصراع بين الخير والشر، بين «الغرب الجماعي» معقل الحضارات، وبقية العالم «الغابة» التي يحكمها الشرير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والخبيث الصيني شي جين بينغ اللذان يجذبان المتوحشين في «الجنوب الشامل» في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وهكذا يجب على الرواة مواجهة تحدي الدفاع عن قضية خاسرة وإيضاحها: إن أولئك الذين امتلكوا التاريخ ويقررون ما هو القانون منذ خمسة قرون، يمثلون عشر سكان العالم، يواجهون تسعة الأعشار الباقية في العالم الذين لم يعودوا يتحملون غرور الدول الغربية أتباعها، ويقفز قادة المعسكر الذي يتراجع من حرب إلى أخرى، من الحرب ضد فيروس كورونا المستجد إلى الحرب في أوكرانيا واليوم الحرب في غزة ضد الفلسطينيين والعرب، وغداً في بحر الصين أو في شواطئ تايوان.

حماس- إسرائيل أو إسرائيل- حماس! من الواضح تماماً أن هذه التسمية أو تلك، تم فرضها كجزء من اللغة المهيمنة التي تسمح بتصنيف الأطراف المتنافسة وتحديد ترتيبها على سلم القيم. تحتل إسرائيل مركز اهتمامات محور الخير الغربي، أنها دولة «أخلاقية» بالتعريف وتدافع عن نفسها ويقع على عاتقها مهمة الدفاع عن العالم المتحضر وقيمه وقواعده في الخير والحرية وحقوق الإنسان، أي إنها تمثل «الناس مثلنا» كما يقول البعض.

المحتلون وجنودهم وشرطتهم والمستوطنون المتطرفون وميليشيات الأبارتيد، هم حماة السلام، متوحشون قليلاً، لكن ما العمل في مواجهة «حيوانات بشرية»؟!

تكشف هذه الدولة التي تمثلنا عن مزاياها في مواجهة حماس الموصوفة بأنها «مجموعة إرهابية» ارتكبت اعتداء غير مبرر وتجسّد الشر المطلق والوحشية. لكن مقاطع الفيديو على الإنترنت أظهرت مشاهد الرعب أثناء القصف والتدمير والمجازر ولاسيما ضد الأطفال، هذه هي الحياة اليومية في غزة منذ شهر واحد، لكنها من المحرمات داخل معسكر الخير الذي يُخفي أيضاً مصير ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية والقدس الذين يتعرضون لأعمال الترهيب ومصادرة ممتلكاتهم والإزعاج بشكل يومي.

إذا كان من الملائم التعاطف مع جميع الضحايا المدنيين، فإن ذلك لا يعني تجاهل حق الفلسطينيين بالمقاومة ضد الاحتلال والقمع، وهو حق مشروع بموجب القانون الدولي بعد عام 1945 بغض النظر عن شكل هذه المقاومة، لأن «المجتمع الدولي» مسؤول عن هذا الوضع الذي وافق عليه. بدأت بعض المؤسسات مثل «معهد الدقة العامة» بالإعراب عن قلقها بعد ستة وخمسين عاماً من الاحتلال والانتهاكات الواضحة للقانون الدولي، و«أن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً»، ومن المفترض أن تعلن المحكمة الجنائية الدولية في شهر شباط 2024 عن موقفها حول الصفة القانونية أو غير القانونية لهذا الاحتلال.

بالنسبة لأولئك الذين بدؤوا إعادة كتابة التاريخ، فإن تاريخ فلسطين الشهيدة لم يبدأ بتاريخ 7 تشرين الأول 2023، ومن النادر جداً العثور لدى صحفيينا على مجرد ذاكرة بسيطة تضع الحرب في غزة في السياق المأساوي لتاريخ فلسطين منذ وعد بلفور عام 1917. لم يحظ المشروع الصهيوني بالشعبية لدى يهود أوروبا في ذلك الوقت، وهو مشروع استعماري رعاه البريطانيون الذين يريدون إنشاء «دولة عازلة» يسكنها مستوطنون جاؤوا من جميع أنحاء العالم من أجل خدمة مصالح العرش البريطاني ونشر الفوضى في الشرق الأوسط.

بلغت الجرائم التي ارتكبها الأوروبيون ضد اليهود ذروتها خلال المحرقة الرهيبة، الأمر الذي شجع صعود التيار المؤيد لإنشاء وطن قومي لليهود في إفريقيا أو أميركا الجنوبية أو فلسطين. واتضح مصير فلسطين عام 1947 بعد فترة قصيرة من تأسيس الأمم المتحدة من خلال خطة التقسيم، وإذا كانت هذه الخطة تكفيراً عن ذنوب الأوروبيين، فإنها تجاهلت حقوق العرب السكان الأصليين وجردتهم من أكثر من نصف أرضهم التاريخية، ويتجاهل المؤرخون والمحللون هذه السرقة التي كان العرب ضحيتها، تم التصويت على خطة التقسيم تحت ضغط الأميركيين، وأعطت الشرعية للدولة الجديدة، لكنها لا تلغي أبداً شرعية الحقوق الفلسطينية.

تكفي بعض الأرقام لوصف مسار دولة خارجة عن القانون، مبنية على أساس الإفلات الكامل من العقاب بضمانة أميركية، فقد انتهكت إسرائيل 226 قراراً أصدرهم مجلس الأمن بين عامي 1948 و2016، يُضاف إليها واحد وعشرون قراراً خلال السنوات السبع الماضية.

خرجت فلسطين من دائرة الاهتمامات منذ اتفاق أوسلو المخادع، وخسرت «مركزيتها» لدى العرب، لكنها لم تفقد أهميتها في الهواجس الصهيونية، فشنت إسرائيل أربعة عشر هجوماً بين عامي 2002 و2023 بأسماء مختلفة على الطريقة الأميركية.

فشل الحل القائم على أساس دولتين، نظراً لأن هذا الاحتمال لم يكن إلا خدعة للعرب، وتبخرت المسألة الفلسطينية، وتمكن قادة الدولة الصهيونية من تهميش أو حتى القضاء على الوجود الفلسطيني في فلسطين عبر تحويل دولة إسرائيل إلى دولة لليهود، وقاموا بتسريع بناء نظام فصل عنصري شامل ضد العرب مثلما حصل في جنوب إفريقيا وروديسيا سابقاً.

في الوقت الذي يتظاهر فيه العالم بالتساؤل حول العنف المتجذر في هذه الأرض المقدسة ثلاث مرات، من الجدير بالذكر أن سورية- فلسطين تقع في محور مواجهة عنيفة ناجمة عن التغيرات الجيوسياسية العالمية: أصبحت هيمنة «الغرب الجماعي» من مخلفات الماضي، وأخذت مكانه ثلاث دول- حضارات هي: روسيا والصين وإيران، وجرّت وراءها «الجنوب الشامل» الذي أغراه النموذج المتعدد الأقطاب طور التشكل حاليا، وتحتل سورية مكاناً جيداً في المعسكر المنتصر الجديد، ومن الممكن التساؤل عن المكان المخصص لفلسطين أي «سورية الجنوبية»، بصفتها جزءاً طبيعياً من سورية التاريخية.

كان الهجوم الفلسطيني على غزة بتاريخ 7 تشرين الأول بمنزلة المفاجأة المذهلة، وخلط أوراق الملف بشكل كبير مدمراً أسطورة إسرائيل التي لا تُقهر، وأعاد هذا الهجوم إلى القضية الفلسطينية مركزيتها، وأعاد الابتسامة إلى الكثير من الفلسطينيين والعرب مهما كانت مواقفهم من المهاجمين، وتم وصف «المقاومة» بـ«الإرهاب»، هذا أمر طبيعي مثلما قال الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول في مؤتمره الصحفي الشهير في شهر تشرين الثاني 1967.

سمعنا المتطرفين في إسرائيل يتحدثون عن إبادة جميع سكان غزة، نظراً لأن مسؤوليها يتفاخرون بذلك وبدؤوا بالتنفيذ: إبادة أم «تطهير عرقي»؟ يندرج الوضع الحالي في غزة في سياق السياسة التي تبناها الصهاينة منذ عام 1948 والمتمثلة بإزالة أي آثر لفلسطين والفلسطينيين في مكان إقامتهم، وتميل الكراهية نحو الإبادة التي تعتمد على جرائم الحرب و/ أو الجرائم ضد الإنسانية بشكل يدخل في نطاق عمل المحكمة الجنائية الدولية التي أكدت في تقرير أولي في شهر شباط 2021 صلاحيتها الجغرافية على جميع أراضي فلسطين على الرغم من أن إسرائيل لم توقع على معاهدة روما، ويستخدم الغرب مصطلح «الإبادة» أكثر فأكثر.

يواجه الفلسطينيون مثل بقية شعوب المنطقة المعضلة التالية: الموت البطيء على آمل استيقاظ ضمير الجلاد، أو الموت في المعركة لتغيير المصير، وكيف يمكن السكوت والبقاء جامدين تجاه غرور الذين يدعمون هذه الإبادة أمام أعيننا؟ لأن الحكومات الغربية التي تحب إعطاء الدروس وتدعم الجرائم والتعذيب ضد العرب توفر دعماً أعمى لرتكبي الإبادة، وباسمنا.

كيف يمكن الحديث بجدية عن حل قائم على أساس دولتين في الوقت الذي تحول فيه الطرف الفلسطيني إلى قصاصات ورق ممزقة، والقادة الإسرائيليون يشبهون المجانين الغاضبين، والحقد ينتشر في المنطقة بأسرها؟ يتحمل الغرب هذه المسؤولية، لكن الرياح تهب، يتعالى الغضب في مدنه الكبرى مع اتساع المظاهرات المؤيدة لفلسطين، فخرجت مظاهرات حاشدة في باريس يوم السبت 4 تشرين الثاني ضد «إبادة الفلسطينيين»، ألا نشعر بنفحة أمل عندما تتعالى الأصوات بانتماءاتها المختلفة لكي تدعو إلى السلام والعقل والعدالة والإنسانية والتفكير.

على أي حال، نحن لا نستطيع السكوت أمام أطفالنا وأحفادنا، سيقول الكثيرون عندما تهب الرياح: «لم نكن نعلم». ربما سنصدقهم، لكن نظرات قابيل ستلاحقهم على فراش الموت أو في القبر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن