ثقافة وفن

يؤلفنا الجرح

| إسماعيل مروة

قد قضى الله أن يؤلفنا الجرح وأن نلتقي على أشجانه

كلما أنّ في العراق مريض لمس الشرق جنبه في عمانه

هذا ما قاله الشاعر العظيم عن وحدة الشعور بين الشعوب العربية، التي تجتمع في منطقة واحدة من نواكشوط إلى عمان، دون أن يبحث في الذرائعية والأصول، ودون أن ينال من خصوصيته جانب أمام جانب آخر، فهذه المنطقة التي تدين بالتوحيد مهما كان الدين، وتنتمي إلى ثقافة واحدة مهما تعددت الثقافات، تحولت بفعل الزمن والتاريخ إلى منطقة متجانسة إلى حد ما، وهذا التجانس هو الذي جعلها محط أطماع في حين، وهدفاً في كثير من الأحيان، لا تفريق بين مسلم وغير مسلم، بين عربي وغير عربي، بين سني وشيعي، إلى ما لا نهاية من الاعتبارات التي لا يأخذها المعتدي بعين الاعتبار، وبدل أن تتحول هذه الكتلة المتجانسة إلى حد ما إلى القوة، بدأت تتفسخ أمام الهجمات، والأكثر إدهاشاً أن أبناءها هم الذين يصنعون الجدر والفوارق، فهذا ينال من ذاك، وهذا ينال من عادات وتقاليد، وذاك ينال من فكر، وهكذا حتى تتحول الخلافات إلى حائط صد يصعب معه البحث عن القواسم المشتركة التي يمكن أن تحقق المصالح لجميع أبناء هذه المنطقة، فالعامل الاقتصادي والتجاري مما قبل الإسلام هو المتحكم في المنطقة، وجاءت رحلتا الشتاء والصيف في النص القرآني، وكانت تجارة الرسول صلى الله عليه وسلم لتروي قيمة القضية الاقتصادية والتجارية بين بلدان المنطقة في رحلات منتظمة، فهذا يبيع وذاك يشتري، ولا فضل لواحد على آخر، لأن الأمر يقوم على تبادل المصالح، مع أن تجارة ما قد تكون أكثر رواجاً من تجارة أخرى، وتحمل كتب البيع والشراء عند العرب طرائق التجارة والبيع، فهذه المنطقة ومما قبل الإسلام مفتوحة في تجارتها ومصالحها على بعضها، واستقرار المنطقة يؤثر في المناطق الأخرى، وذلك بحكم الجغرافية.. ومع مجيء الإسلام فقد تحول كثيرون إلى الإسلام بالرضا والدعوة، إذ لم تكن الفكرة التي يقوم عليها الإسلام الإكراه والاستيطان، فبقي أبناء البلدان في بلدانهم، وأخذوا الحرية في التنقل بين مختلف بلدان الدولة الجديدة، وهكذا تشكلت دولة فريدة في التاريخ تعتمد على أبناء المناطق دون النظر إلى العقيدة، ودار الحكمة تشهد بذلك، والعلوم والآداب خير منبئ عن ذلك، ومع القرون المتطاولة انتقلت قبائل، وسكنت قبائل، وتحولت قبائل، وعمرت مدائن، وهجرت مدائن، وتداخل أبناء الحضارة إن كانوا من العرب الذين خرجوا من الجزيرة العربية، الخزان الأول للقبائل العربية، أو من القبائل التي كانت في البلدان التي دخلها الإسلام.. هذا التداخل والتماهي، لا يقتصر على فكرة التلاقح والتزاوج التي يتحدث عنها بعضهم، فتلك حالات فردية لا تصنع مجتمعاً، هذا التداخل أدى إلى وجود هجرات قبلية مهمة، ووجود القيسية وغيرها في البادية السورية، وبنو تميم موجودون في أجزاء مهمة من الأرض السورية.. هذا التداخل يدعونا إلى أن نفكر بجدية فيما يجمع هذه الأمة لا فيما يفرقها، والشعور ووحدة الشعور من الأهمية بمكان، والمصالح ووحدة المصالح، والتجارة والتبادل يجعلنا نفكر بالطرق المثلى التي يجب أن تتحقق ليسعد أبناء هذه المنطقة الجغرافية، ويتبادلوا المصالح، وليس أن يفرضوا الهبات والأعطيات، وفي كل مدة نجد من يشعل فتيل مشكلة بين أبناء هذه المنطقة، من هذا الجانب أو من ذاك، وكأن الأمر واجب وضربة لازم في أوقات محددة، بينما لا يشكل ضرورة في أوقات أخرى!

يتملكك العجب وأنت تسمع الردح والتشاتم بين أبناء المنطقة الواحدة، فلا أقول بين أبناء الأصل الواحد، لأن الظرف جعل كل واحد منهما يرفض الآخر، الظرف المادي أو الإيديولوجي، أو غير ذلك من أسباب! بل على أقل تقدير هم أبناء بيئة واحدة ومكان واحد، ويمكن أن يفكروا بطرائق متقاربة، ولكن ما يجري هو أن كل واحد منهما يفاخر بنفسه ويرفض الآخر، يباهي بنفسه، إن كان لديه ما يباهي به، وينتقص الآخر، ويحوّل محاسنه كلها إلى نقائص! يصبح المال شتيمة، فلماذا تسعون إليه؟ تصبح الإيديولوجية شتيمة فلماذا تلتفتون إليها؟ واليوم تعمل وسائل التواصل على دور هادم وتخريبي مضاعف إذ تفتح أذرعها لمن لم يقرأ كتاب تاريخ ليتحدث في التاريخ!

ولمن فرّ من الجندية أن يتحدث في الوطنية! ولمن وقف في الأبواب أن يتحدث عن الإباء! كأن هذه الأمة لا يكفيها ليكمل عليها مثقفو الفيسبوك ومنظروه، ليجهزوا على ما يمكن أن نحافظ عليه من وحدة الشعور بين مغرب البلاد ومشرقها! قد قضى الله أن يؤلفنا الجرح، وليكن ذلك من باب الأحاسيس والمعرفة والمشاركة، وليس من باب الأسرة الممتدة التي يحمل فيها الإنسان عن الضعيف الكسول كل أمر..! لاشك في أننا نملك هوية ثقافية أو لغوية أو روحانية أو عرقية أو أي شيء يجمعنا أكثر من الأمر الذي يفرقنا.. وليعتزل الموغرون في وسائل التواصل الأمر.. فاجتهاداتهم كره وحقد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن