ربما كان الجنرال المتقاعد غيرشون هاكوهين أكثر من شخّص طبيعة وأبعاد الانتصار الذي حققته المقاومة في قطاع غزة في السابع من تشرين أول الماضي، وهو الذي خدم في جيش الاحتلال 41 عاماً وشارك في حروب الكيان الإسرائيلي منذ عام 1974 حتى عام 2014، ففي مقال نشره في صحيفة «إسرائيل هايوم» في التاسع من تشرين الثاني الجاري يعترف هاكوهين تحت عنوان: «فلنرمم الجدار الحديدي» بأن «الهجوم المفاجئ الذي شنه الفلسطينيون على إسرائيل في السابع من تشرين أول وجه ضربة مركزة إلى البطن الرخوة للصهيونية، وأعاد الفكرة الصهيونية إلى الارتباك الذي عاشته في أيامها الأولى وإلى الشك الذي أبداه أحاد هاعام، الزعيم المنافس لتيودور هيرتزل في الحركة الصهيونية، حين قال لهيرتزل: «ربما تحل مشكلة اليهود لكنك لن تحل مشكلة اليهودية»، ويضيف هاكوهين: «وها نحن الآن أمام المسألة الأساسية للصهيونية وهي: ماذا يريد اليهود في أرض إسرائيل؟ لقد تشابكت أهوال الحرب هذه مع القلق الذي ظهر في الحرب الثقافية «السياسية» التي اندلعت بيننا داخل إسرائيل في السنة الماضية، وتشابكت أيضاً محنة اليهود التي تركزت في مسألة الوجود المادي مع محنة اليهودية التي فقدت طريقها الروحي».
في هذه الصورة التي يعرضها هاكوهين، يسلط الضوء على أخطر أزمات الصهيونية بعد مرور 75 عاماً على وليدتها «الإسرائيلية» التي لم تتوقف المقاومة ضدها، وهذا ما يذكر بما قاله المفكر الصهيوني اليعازار شفايد عام 1997 بمناسبة مرور مئة عام على تأسيس الحركة الصهيونية مستذكراً الضربة المفاجئة التي وجهها الجيشان العربي السوري والمصري للكيان وأثرها عليه في حرب تشرين عام 1973 حين قال: «لقد رأى الجنود في إسرائيل أنفسهم أنهم الوحيدون الذين يواجهون أهوال الحرب من أجل حماية المشروع الصهيوني على حين يعيش بقية اليهود بسلام في أرجاء العالم».
في مقاله المذكور يتساءل هاكوهين: «وماذا حققت الصهيونية؟ في عام 2005 تطرق دان ميرون إلى أزمة التشوش في الهدف الصهيوني في كتابه «الاسترخاء من أجل التأثير» وبصفته بروفيسوراً في الأدب العبري في القرن العشرين أبدى ميرون شكوكاً حول هدف المشروع الصهيوني وقال: «في وقتنا هذا لم يحقق التطور التاريخي للصهيونية ونجاحها في تحقيق الاستقلال السياسي اليهودي إلا تبادل الأخطار الوجودية»، ويرى هاكوهين أن «هذا ما يثير مسألتين قاسيتين حول وضع الصهيونية، فقد حاول هيرتزل في أحد أبعاد الرؤية الصهيونية إيجاد رد على معاداة السامية في أوروبا ومع ذلك تبين بالتفاصيل أن اليهود لم يحققوا شيئاً تجاه مشكلة معاداة اليهود هذه».
هذا العمق الذي يتناول فيه هاكوهين الوضع الراهن للصهيونية بعد عملية انتصار «طوفان الأقصى» ونتائجها على الكيان ويهود العالم، بدأ يفرض في أعقاب المذابح التي ارتكبها طوال خمسة أسابيع أمام أنظار العالم أسئلة حول مستقبل هذا الكيان؟ وأصبح يتطلب جداول عمل عربية وإسلامية وعالمية تجاه الكيان وحركته الصهيونية ووجودها، وإذا كان هيرتزل بموجب نظريته قد أراد تأمين وجود وطن والرد على معاداة اليهود في أوروبا بتبني المشروع البريطاني – الصهيوني في فلسطين للاستقواء على معاداة السامية، فقد ولد عند العرب والفلسطينيين أصحاب الوطن، مقاومة لم تتوقف لتدمير هذا المشروع الذي قام على حساب أرضهم وتاريخهم، وصار العالم يرى في كل ساعة وحشية هؤلاء المغتصبين لفلسطين فيندد الرأي العام بهذا الكيان والمستوطنين فيه لا لأنهم يهود بحسب معاداة السامية، بل لأنهم مغتصبون لوطن شعب آخر ويقومون بارتكاب مذابح لإبادته بأطفاله ونسائه، وإذا كان الجنرال هاكوهين يريد ترميم الجدار الحديدي لضمان أمن المغتصبين، وهي الدعوة التي أطلقها زئيف جابوتينسكي عام 1923 لضمان أمن المشروع الصهيوني، فإن تجربة الكيان ببناء أكثر من جدار حديدي حول حدود فلسطين المحتلة وداخلها، لم توقف المقاومة وتأثيرها وإنجازاتها بل إن قطاع غزة بالذات أقيم حوله جدار حديدي وأضيف إليه حصار من البر والبحر والسماء، ولم يبق لشعبه سوى ما تحت الأرض وما فوق السماء، وابتكر فيهما أسلحة ودروباً للمقاومة وصمد أمام كل أهوال المذابح التي ارتكبها كقوة إقليمية يدعمها الغرب كله بجميع أسلحة القتل والتدمير. وفي النهاية انتزعت إرادة المقاومة في السابع من تشرين انتصارها وولدت نتائجه في المنطقة والعالم زلزالاً لكل المشروع الصهيوني ومستقبله بموجب ما يعترف هاكوهين نفسه.