«لم نمنح الموافقة على العمليات العسكرية حول مستشفى الشفاء، والخطة والتنفيذ إسرائيليان»، استوقفني بشدة هذا التصريح الذي أدلى به جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي التابع للبيت الأبيض، فالمعنى المباشر لهذه الكلمات أن أميركا تريد أن تبرئ نفسها من أية ممارسات وحشية يقوم بها جنود الكيان السرطان داخل مجمع الشفاء. لكن هذا التصريح ينطوي على اعتراف غير مباشر بأن الولايات المتحدة منحت موافقتها على كل المذابح والمجازر التي اقترفها جيش الكيان السرطان منذ السابع من تشرين الأول وحتى الآن!
المثير للسخرية هو أن الناطق إياه كان قد حرّض جيش الكيان على اقتحام مجمع الشفاء الطبي عندما قال قبل أسبوع: «لدينا أدلة على استخدام حماس مستشفى الشفاء في إدارة عمليات عسكرية»!
يقال إن القوة التدميرية للقنابل التي أسقطت على غزة تعادل قنبلة هيروشيما أكثر من مرتين، وهذا يستدعي قصيدة محمود درويش «مديح الظل العالي» وخاصة قوله: «وإن الموتَ يأتينا بكل
سلاحه الجويِّ والبريِّ والبحريِّ/ مليون انفجار في المدينة /هيروشيما هيروشيما/ وحدنا نُصغي إلى رعد الحجارة، هيروشيما/ وحدنا نُصغي لما في الروحِ من عبثٍ ومن جدوى/ وأميركا على الأسوارِ تهدي كل طفل لعبةً للموتِ عنقوديَّةً/ يا هيروشيما العاشقِ العربي/ أميركا هي الطاعون، والطاعونُ أميركا»
لقد أوجز درويش المعضلة بثلاث كلمات: أميركا هي الطاعون. كانت أميركا هي الطاعون ولا تزال، وهي ليست طاعون منطقتنا وحدها بل هي طاعون البشرية برمتها.
قبل بضعة أشهر أرسل لي صديق يعيش في أوروبا ملخص ورقة بحثية بعنوان: «تقديم مشروع التدخّل العسكري: مجموعة بيانات جديدة عن التدخلات العسكرية الأميركية، منذ عام 1776 وحتى 2019». للباحثتين مونيكا دافي تافت وسيديتا كوشي. خلصت الباحثتان في ورقتهما إلى أن «أميركا خاضت قرابة 400 تدخل عسكري منذ تأسيسها في عام 1776، كما خلصت الباحثتان إلى أن نصف هذه التدخلات جاء بعد الحرب العالمية الثانية، ومئة منها وقعت في حقبة ما بعد الحرب الباردة».
تعترف الباحثتان أن مشروع بحثهما، برغم إشكالياته العديدة، يطرح سؤالاً ملحاً: «هل العدوانية الأميركية وسيلة لتحقيق غاية ذات أبعاد سياسية اقتصادية، أم إنها أصبحت إدماناً غريزياً متفلتاً لا علاقة لها بالمنطق والعقلانية السياسية؟»
أعتقد أن السؤال أكثر من نصف الجواب، وقد سبق لي في هذا الركن أن توقفت عند كتاب «حق التضحية بالآخر، أميركا والإبادات الجماعية» تأليف: منير العكش، الصادر عن دار رياض الريس 2002.
أولى الحقائق التي أذهلتني في هذا الكتاب هو أن عدد سكان أميركا الأصليين عام 1492 عشية وصول الغزاة البيض إلى أميركا، كان يبلغ 112 مليون إنسان ينتمون إلى أكثر من أربعمئة شعب، لم يبق منهم في إحصاء أول القرن العشرين سوى ربع مليون»!
والحق أن العدوانية الأميركية ليست بخافية على أحد، فبين فترة وأخرى نقرأ أخباراً مريعة عن تلاميذ يقتلون زملاءهم في المدرسة، وفتيان يقتلون ذويهم لخلاف حول الصلاة ليلة عيد الميلاد!
وعشية حدوث مجزرة التلامذة في تكساس ظهر أستاذ في جامعة هارفارد على إحدى الشاشات ليقول إن «أميركا تقتل أميركا»، وإن «ظواهر العنف الموجودة في المجتمع الأميركي قد لا يوجد نظير لها حتى في الأدغال»، ما جعل كثيرين يتساءلون عبر مواقع التواصل عما إذا «كنا نعيش في إمبراطورية المجانين». وقد قال فرنسيس فورد كوبولا، مخرج «القيامة الآن» منذ أربعين عاماً: «لو كان دانتي على قيد الحياة لكتب التراجيديا الإلهية لا الكوميديا الإلهية»!