ليس من المبالغة التأكيد أن الولايات المتحدة هي سبب كل الحروب والنزاعات واضطهاد الشعوب والمذابح المرتكبة بحقها طوال أكثر من قرن، وإذا كانت بريطانيا وفرنسا قد استعمرتا في بداية القرن الماضي معظم البلدان العربية وقسمتا أمتنا وتقاسمتاها، فإن الولايات المتحدة تمكنت منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) من وراثة النفوذ والاستعمار البريطاني والفرنسي في معظم أرجاء العالم ونشرت قواعد عسكرية في أكثر من 100 دولة، ولذلك ورثت أيضاً الكيان الإسرائيلي الذي سارع الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان إلى الاعتراف به في 14 أيار عام 1948 بعد 11 دقيقة من الإعلان عنه وسبق بريطانيا التي صنعته، ومنذ ترومان حتى الرئيس جو بايدين لم تتوقف واشنطن عن حماية ودعم وتأييد مذابح هذا الكيان وخاصة بعد استخدامه ضد ثلاث دول عربية في عدوان عام 1967 واحتلال أراض منها وبقية فلسطين، وكان من الواضح أن يشهد العالم العربي بعد المشاركة الأميركية العسكرية السرية إلى جانب تل أبيب في عدوان عام 1967 حروباً إسرائيلية متواصلة ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة وضد سورية ولبنان ومصر طوال سنوات الستينيات ثم ضد الفلسطينيين وسورية ولبنان في الثمانينيات وحتى هذه اللحظة، إلى أن قامت الولايات المتحدة باحتلال العراق بقواتها وقوات أوروبية عام 2003 وتحولت بداية القرن الحادي والعشرين إلى حرب أميركية – إسرائيلية مستمرة لإخضاع كل المناهضين والمقاومين للاحتلال والهيمنة الأميركية في المنطقة.
الرئيس الأميركي جو بايدين هو الوحيد الذي شارك خلال أكثر من نصف قرن منذ عدوان 1967، كسياسي رسمي عضو في مجلس الشيوخ، بمتابعة كل هذه الحروب الإسرائيلية – الأميركية ويقود آخر الحروب الأميركية – الإسرائيلية في تشرين عام 2023 كرئيس للولايات المتحدة ضد مليونين من الفلسطينيين وفصائل المقاومة في قطاع غزة، فحين يرسل في مثل هذه الحرب حاملتي طائرات وغواصة نووية ويطلب من رئيس حكومة الكيان استمرار إطلاق النار والقذائف والصواريخ على قطاع غزة ويدعم مذابحه ويؤيد حملة الكيان الإعلامي التحريضي لإبادة شعب، فهذا ما لم يفعله أي رئيس أميركي ضد مليونين من أفراد الشعب الفلسطيني المحاصر الأعزل ومقاومته التي لا طائرات لها ولا دبابات، سوى إرادتها العظيمة وأسلحة فردية وصواريخ صنعتها تحت الحصار.
ولا شك بأن هذا الانتشار الأميركي لحماية الكيان من مليونين يحيط بهم الحصار طوال 16 عاماً والتشجيع على ارتكاب المذابح العلنية اليومية ضد أطفاله ونسائه وشيوخه لم يسبق له مثيل إلا في تاريخ احتلال بريطانيا لأميركا الشمالية قبل أكثر من 500 سنة ونقل المستوطنين الأوروبيين إليها لإبادة الهنود الحمر أصحاب الأرض، وهو الأنموذج الصهيوني الذي صنعته بريطانيا مرة أخرى في فلسطين حين جاءت بالأوروبيين اليهود إلى الاستيطان فيها بعد احتلالها عام 1918، وبهذا المفهوم أصبحت أميركا هي أم كل استعمار استيطاني والابن هو هذا الكيان، وبالمقابل أصبح الشعب الفلسطيني وكل من يصطف إلى جانبه ضد الاحتلال الصهيوني هو الذي يدافع عن نفسه ضد الولايات المتحدة وهذا الكيان معاً، وبالتالي تصبح هزيمة الكيان بالضرورة هي هزيمة للولايات المتحدة، وهذا ما سجله التاريخ حين هزم الفيتناميون الأميركيين في سايغون بعد حرب دامت 11 عاماً وحرروا فيتنام الجنوبية عام 1975 ووجهوا هزيمة لأقوى دولة كبرى بعد أن نشرت في هذه الحرب أكثر من نصف مليون جندي أميركي، إضافة إلى جيش سايغون العميل وكانت هانوي عاصمة فيتنام الشمالية محاصرة من كمبوديا ولاوس اللتين كانتا تخضعان للنفوذ الأميركي وانتشار الجيش الأميركي فيهما.
وبعد احتلالها العراق عام 2003 تكبدت الولايات المتحدة هزيمة عام 2012 حين أجبرتها المقاومة على سحب جيشها، ويبدو أن بايدين الذي كان نائباً للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في ذلك الوقت، حمل مرارة الهزيمة، وحين وجد في تشرين الأول الماضي أن الكيان تزلزلت أركانه باعتراف معظم قادته، سارع إلى حمايته كأنموذج استعماري استيطاني باستعراض قوة عسكرية ضد مليونين من الفلسطينيين المحاصرين خوفاً من هزيمة الكيان، ومع ذلك سيسجل تاريخ مقاومة الشعوب للاستعمار وأشد أشكاله الاستيطانية أن هذه المعركة لم ولن تنته عند كل ما يخطط لها في الدوائر الأميركية الإسرائيلية، فقد رسمت بل حفرت صورتها في ذاكرة شعوب المنطقة وأن قادة أميركا ومعهم الغرب كله، كانوا شهوداً مشاركين بأكبر وأفدح مذابح جرت في التاريخ أمام شاشات كل القنوات التلفزيونية في العالم، لتصبح ماثلة أمام جيل كامل وأرشيف ثابت بالصورة والصوت والأدلة ضد أميركا والكيان معاً، وهذا ما جعل الكاتب التقدمي جيرمي سكاهيل يقول في 14 تشرين الثاني الجاري في مجلة «إنترسيبت» في تحليل يكشف فيه هذا الوجه الأميركي: «جو بايدين ستلاحقه للأبد هو والولايات المتحدة أسماء أطفال ونساء غزة الضحايا وكل أشكال المذابح»، والكل يرى أنهم لم يتمكنوا من كسر إرادة هذا الشعب والمعركة مستمرة.