في 21 آذار عام 2003 سقطت بغداد عسكرياً بيد قوات الاحتلال الأميركي بعد أن سقطت قبل ذلك بأيام إعلامياً وفق السردية الأميركية، التي انتهجت إحدى قواعد العلوم العسكرية التي تقول: «إن الانتصار الحقيقي لا يتحقق في ساحات المعارك بل في أذهان وعقول الشعوب»، ما يعني أن الانتصار في أي حرب يستوجب الانتصار في معركتين متوازيتين؛ هما المعركة العسكرية التي تجري في الميدان ومعركة السرديات التي تجري في وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، وهو ما سعى إليه قادة الكيان الإسرائيلي منذ اللحظات الأولى لعملية «طوفان الأقصى»، وسوق سرديات تشيطن المقاومة الفلسطينية، وتضع الكيان في خانة «الضحية» ليبرر لاحقاً سيل الإجرام المرتكب بحق نساء وأطفال وشيوخ غزة.
ما خرجت به صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية بأن تحقيقات للشرطة الإسرائيلية أشارت إلى أن مروحية تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي أصابت بنيرانها بعض المشاركين في مهرجان «نوفا» الذي كان يقام قرب الحدود مع قطاع غزة، خلال إطلاقها النار على رجال المقاومة الفلسطينية خلال اللحظات الأولى لبدء «طوفان الأقصى»، يؤكد أولاً أن المقاومة الفلسطينية كانت تخطط لتنفيذ عملية عسكرية «نظيفة»، بمعنى دخول القواعد والنقاط العسكرية الإسرائيلية وأسر جنود إسرائيليين فقط، دون التعرض إلى المستوطنين، حيث ظهر في مقطع فيديو من إحدى الكاميرات الخاصة بأحد المقاومين، وهو يسأل مختطفاً عن الاتجاهات إلى مستوطنة «رعيم» حيث توجد هناك قاعدة عسكرية، وفق الصحيفة الإسرائيلية، وفي ذات السياق كشف الصحافي الأميركي ماكس بلومنتال، في مقابلةٍ مع قناة «برافي نيوز يوروب»، الأحد الماضي، كيف قصف جيش الاحتلال البيوت في مستوطنة «كيبوتس بئيري» بالمدفعية، وكيف قصفت الطائرات الإسرائيلية مهرجان «نوفا» بطائرات الأباتشي لتصفية مقاتلي المقاومة، إذ قتل معهم مستوطنين ومن بينهم طفل استخدمت صوره في جزء من الدعاية الإسرائيلية.
الحقيقة التي نشرتها «هآرتس» تقودنا إلى الهدف الحقيقي من وراء سردية الاحتلال بأن المقاومة ارتكبت مجازر وقطعت رؤوس الأطفال في «طوفان الأقصى» وهو إيجاد مبرر لشن عدوان على القطاع بهدف تحقيق مخطط تهجير سكانه بالقوة إلى مصر، بعد أن فشلت في تحقيق ذلك بالقوة الناعمة عبر مبادرات بعض الدول الأوروبية وتركيا لتقديم تسهيلات لسكان غزة للإقامة فيها بشكل دائم، وهدف قادة الكيان ظهر جلياً من خلال عدم الاكتراث إلى أسراهم لدى المقاومة، أو الحديث عن صفقة تبادل مع المقاومة، إلا بعد مضي 45 يوماً، ومع اتضاح صورة فشلهم في تحقيق أي تغيير في خريطة غزة الديموغرافية.
اشتغال الكيان الإسرائيلي في بداية «طوفان الأقصى» على سردية الربط بين المقاومة الفلسطينية وتحديداً حركة حماس، وتنظيمي «القاعدة» و«داعش»، والانتقال من «دعشنة» حماس إلى «دعشنة» القطاع، نجحت جزئياً وفي البداية بدفع عدد من الدول الغربية والمجتمعات الغربية بالدفاع عن الفعل الإجرامي الصهيوني، إلا أن الأمر لم يستغرق فترة طويلة لسقوط تلك السرديات، بل أدت لاحقاً إلى إحداث شروخ في مراكز القرار الأميركية والعديد من الدول الأوروبية، حيث اعترف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في رسالة إلى كوادر الوزارة بوجود خلافات بشأن الوضع الحالي بين إسرائيل وحماس، ذات الأمر أكدته إذاعة «Europe 1» أول من أمس عن أحد مستشاري الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بقوله: «لقد أدى النزاع بين إسرائيل وحماس إلى انقسام عميق في الفريق الرئاسي، لدرجة أنهم لم يعودوا يتحدثون مع بعضهم بعضاً».
لقد أدت «طوفان الأقصى» إلى سقوط العقد بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين مع تجاهل قادة الكيان مطالب أهالي الأسرى الإسرائيليين بتحرير أسراهم، وعدم شعور المستوطن بالأمان في مكان إقامته بفعل صواريخ المقاومة سواء في غزة أم لبنان، والتي طالما تغنى بها طوال سنوات منذ قيام الكيان الإسرائيلي.