قضايا وآراء

قمة صينية- أميركية في «سان فرنسيسكو»

| عبد المنعم علي عيسى

لم تكن «سلة» الافتراقات الأميركية الصينية بحاجة إلى واحدة جديدة منها من عيار الافتراق الحاصل حول الصراع الدائر راهناً في منطقة الشرق الأوسط، حتى تفيض جنباتها فتنسكب منها بواعث النفور والقلق، وما إليهما، مما يضيف إلى هذا العالم المتوتر توتراً جديداً، فسيل الافتراقات الأميركية- الصينية في تلك السلة، لا يكاد ينقطع منذ مطلع هذه الألفية، وهو يبدأ عند قضايا سيادية أبرزها وضع الجزيرة المتمردة تايوان، وما هي المآلات التي سوف يصير إليها؟ ثم كيف سيكون ذلك؟ تضاف إليها مسألة السيادة في بحر الصين ولمن يجب أن تكون؟ ولتلك اعتبارات شديدة الحساسية في ظل بروز معطيات توحي بانتقال مرتقب لمركز الثقل العالمي إلى المنطقة التي يشكل ذلك البحر نقطة الارتكاز الأعمق فيها، ثم يمر بقضايا لها علاقة بالتوازنات الدولية وأبرزها الحرب الأوكرانية من دون أن تمثل هذه الأخيرة كل تلك القضايا في هذا السياق، فالأخير يضم أيضاً حالة اللاستقرار التي تشهدها «القارة السمراء» التي يفترض أن تلعب دوراً في ترجيح كفة على أخرى في الصراع المستتر والدائر حول وسم هذا القرن، وباسم من يجب أن يكون؟ ثم يصل إلى قضايا عدة من نوع التجارة العالمية والسبل التي يجب أن تساس بها، ناهيك عن قضايا أخرى مثل المناخ والذكاء الاصطناعي.

كان اللقاء بين الرئيسين الأميركي والصيني الذي جرى على هــامش «منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ» المنعقد بسان فرنسيسـكو يوم الأربعاء الماضــي قــد جرى في خضم كل تلك الافتراقات التي لم تمنع كلها من حدوثه، بل ولم تمنع أيضاً الرئيس جو بايدن من ترديد عبارات «التــودد والمجاملة» بضيفه تحاشياً، لربما، من تصعيد على خط بكين – واشنطن يبدو أن لا لزوم له في ظل انشغال الأخيرة بجبهتين مشتعلتين لا تستطيع تحديد من منهما هي الأهم، فالحرب الأوكرانيـــــة ســـوف تحدد، عبر النتائج التي ستقود إليها، التوازنات التي سترسو عليها القارة الأوروبية لوقت طويل بكل الحمــــولات التـــي ستنجم عن ذلك الفعل على الأمن والاستقرار العالميين، أما العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في فلسطين فأقل ما يقال فيها إنها أيضاً عبر النتائج التي ستفضي إليها، سوف تعمق، أو تخفف، من سطوة القبضة الأميركية على العالم، وسط مؤشرات راحـــت تتزايد مؤخراً وهي تشير لترنح هذه الأخيرة لكن من دون وجود دلائـــل على قرب تلقيها «الضربة» التي ستلقيها أرضاً، لكن وعلى الرغـــم من حرص بايدن على إخراج عبارات التــودد، إلا أن «الهفــــوة» التي لازمته في محطات عدة منذ وصوله إلى سدة الرئاســـة مطلع العام 2021 كانت حاضرة أيضاً في المؤتمـــر الذي عقــده في نهاية اجتماعه بالرئيــس الصينـــي شــي جـــين بينــغ والــذي دام لنحو أربع ساعات كاملة، والشاهد هو أن بايدن كان قد أجاب رداً على سؤال عما إذا كان لا يزال يعتقد أن صفة «الديكتاتور»، التي سبق وأن وصف الزعيم الصيني بها، لا تزال تنطبق عليه، بالقول: «أعتقد أنه كذلك نظراً لأنه على رأس دولة شيوعية نظام حكمها لا يشبه نظام حكمنا»، والقول الذي لم يرضِ الكثيرين من مسؤولي إدارته وعلى رأسهم وزير خارجيته أنتوني بلينكن، إلا أنه لا يعكس هذه المرة «زلة لسان» بقدر ما يشير إلى الهوة السحيقة التي تفصل ما بين مواقف البلدين تجاه قضايا شديدة الحساسية، والراجح هو أن ذلك القول، جاء انعكاساً لتكريس الافتراق في مسائل عالقة من نوع مسألة تايوان والموقف الصيني من الصراع الدائر قبل نحو 22 شهراً في أوكرانيا، الأمر الذي تعكسه أيضاً بعض التسريبات لمقاطع من الحوار الذي دار خلال ذلك الاجتماع.

تبعاً للبيان الصادر في أعقاب اجتماع سان فرنسيسكو، فإن الطرفين اتفقا على «استعادة التواصل الرفيع المستوى في المجال العسكري» وعلى «بحث مخاطر الذكاء الاصطناعي»، كما اتفقا على «توسيع التبادلات في مجال التعليم والأعمال والثقافة»، ومن حيث النتيجة يمكن القول إن ما جرى الاتفاق عليه كان يطول «القشور» ولا يصيب «اللب» ما يدفع إلى التخمين بأن الطرفين سعيا، فحسب، إلى إظهار صورة مفادها أن بالإمكان وضع ضوابط للتوتر في العلاقة القائمة بين الطرفين منذ ما يزيد على عقدين، وما يؤكد هذا التخمين الأخير هو أن البيان لم يعرض لأي توافق، أو خلاف، حول مسائل عالقة تفوق في أهميتها تلك التي جرت التوافقات حولها، ومن شبه المؤكد هو أن الطرفين عرضا لتلك المسائل لكن من دون التوصل إلى تفاهمات حولها يمكن أن تمهد الطريق لتوافقات أوسع لاحقاً، ولذا جاء الخيار بعدم ذكرها في البيان.

لا تزال المسألة الكبرى العالقة أمام توصل الطرفين إلى حلول شاملة تكمن في أن الولايات المتحدة ترفض الاعتراف بدور «ندي» للصين، وهي لا تريد بالتأكيد أن ترى لبكين دوراً عالمياً يكرس بشكل ما، نظاماً دولياً جديداً سواء أكان عنوانه ثنائياً أم متعدد الأقطاب، والدفاع الأميركي لا يزال شرساً عند النظام القائم حالياً الذي يكرس هيمنة قطب واحد على كوكب بات يعاني من هذه الأخيرة لاعتبارات عدة، والفعل من الممكن تلمسه بوضوح من خلال ردود الأفعال الصادرة عن واشنطن تجاه الاتفاق الإيراني- السعودي الذي جرى توقيعه ببكين في العاشر من آذار الماضي، ويمكن تلمسه بوضوح أكبر من خلال تجاهل الدعوة التي وجهها وزير الخارجية الصيني وانغ يــي يــوم 23 تشرين أول الماضي، أي بعــد 17 يوماً من اندلاع حــرب غــزة، لـ«عقد مؤتمــر ســلام دولي أقوى وأوسع نطاقاً لدعم استئناف محادثات السلام» في الشرق الأوسط، وعلى الرغم من أن الدعوة تهدد بنسف كل ما راكمته الدبلوماسية الأميركية خلال أربعة عقود، إلا أن مآل التطورات قد لا يتيح استمرار التجاهل الأميركي آنف الذكر.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن