ثقافة وفن

هيام حموي وتسجيل اللاشعور

| إسماعيل مروة

في لحظة جاء اتصال الإعلامية الراقية هيام حموي، ومن دون أي تحفظ قالت: تنتابني أحاسيس كثيرة، حين يكون المرء بين خيارين: أحدهما أن يحافظ على دماغه مقابل تعب الجسد كله ومرضه، وثانيهما صحة الجسد، وتسلل التعب إلى الدماغ! حيرة حقيقية بين خيارين صعبين، وأردفت: في دماغي الذي لم يتعب، مع أن الجسم أصابه الوهن الكثير من الأفكار والقصص والحكايات، أريد أن أكتبها، ولكنني لا أملك الوقت والهمة لكتابتها، ومن الأفكار والشطحات والخيالات التي تنتابني فكرة مجنونة، أتمنى فيها أن يصلوا إلى طريقة لتسجيل تفاصيل الأحلام، واللاشعور عند الإنسان، فغالباً ما يستيقظ ولا يذكر من أحلامه سوى القليل، أودّ لو أرى صورة كاملة مسجلة لأحلامي واللاشعور عندي، ضحكت بألم وقالت: بالأمس كنت أتابع ما يجري على الأرض العربية في فلسطين عصرني الألم، وغلبني الدمع وأغفيت من دون أن أدري، وحين استيقظت صباحاً اكتشفت أنني ضغطت بالغلط على أحد أزرار الموبايل، فرحت كثيراً، وأردت أن أرى ما تمَّ تسجيله في أثناء النوم من الأحلام، فوجدت ما يصدم، إنها شاشة سوداء من أول التسجيل إلى آخره، لا شيء فيه غير السواد، حاولت أن أنظر لعله التقط شيئاً مما دار في داخلي من أحلام وأذكر بعضه، لكنه تبين لي أن الآلة لم تلتقط ما كنت أتمنى أن أراه! سعدت لأن أحداً لن يكتشف ما كان يدور في لا شعوري، وكانت الصورة الفيلمية سوداء تماماً تشبه حالين، حال من يتردد بين الجسد والدماغ، وحال الأمة اليوم وما يجري على الأرض من اغتيال للإنسان والطفولة والأمومة.. فهل أرجو بعد ذلك أن تكتشف آلة تصور اللاشعور؟!

ضحكت هيام وقالت: صدقني كما ضغطت على الزر بالخطأ في المساء قبل النوم ضغطت على مكالمتك، ولم أكن قد وضعت في ذهني أن نتكلم، لكن إصبعي ضغطت الزر! كانت الأغنيات الفيروزية تصدح جانب هيام، وشآميات سعيد عقل تصل إلى سمعي.. طلبت من هيام أن تكتب ما تقوله، وهي التي تسمع شآم أهلوك أحبابي، وتستند إلى برج إيفل، وصوتها بأوتار الحنان الغاضب يصل يومياً إلى محبيها وكأنها تعيش في الميدان، قالت: قد لا تسعفني الذاكرة في الكتابة، لكنني سأكتب ذات يوم.. في رأسي حكايات كثيرة أريد أن أكتبها، وعندي أسئلة لوالدي ووالدتي أريد أن أطرحها عليهما، لماذا جاء أبي إلى الدنيا؟

حين استعرضت الفيلم التسجيلي الذي تم تسجيله خطأ وهي في غفوة، لم تجد شيئاً، ووجدت كل شيء! لم يكن السواد قاتماً، وكانت الصورة تشبه خيوط العنكبوت لوناً وفراغات، وكانت تعربش بين هذه الشبكات التي غطت اللوحة.. ومن بين الخطوط كان الوطن المتألم، وذرفت دمعات وهي تسأل عن الخاتمة، وهل يمكن أن تشهد نهاية تحبها لحكاية سجلتها الشاشات وكانت خارج النص والسياق؟! في الشبكة لاحت وجوه كثيرة عرفناها ذات يوم، فعلت فعلها، ادعت ما أرادت، ووضعت لنفسها إطاراً خاصاً صنعته بكل إتقان، ولكن الإطار لم يكن لائقاً باللوحة الشوهاء! عجيب أمر اللوحات الشوهاء التي تغطي مساحات كبيرة في الأرض، وتدّعي أنها من روائع عصور الخالق الأولى، وليست أكثر من خطوط شوهاء صنعها الحقد على جدران وطن يغفو على الحلم!

وتنثال الصور متتابعة، على الرغم من وحدة اللون العنكبوتي إلا أن الألوان تظهر وتغيب، فالعنكبوت السام الذي يغطي الشاشة يتبختر في حركته، فيصرع الباطل طفلاً، امرأة، شيخاً، وكل واحد منهم لم يخض غماراً، ولم يقابل واحداً، ولم ينه وجبة رضاعه التي أعدت له ذات صباح!

أبنية تنهار.. أجساد تحترق، أطفال، خضرة تتلاشى، ابتسامة تغيب وراء الحقد..

وطن يسلبه اللصوص محاسنه، طبول لا تدري معنى الإيقاع تتصدر الفرقة العازفة..

لم تجد بداً من أن تحدد الفيلم المسجل وأن تلقي به إلى سلة المهملات.

من حسن الحظ أننا لا نقدر على قراءة دواخلنا، ولا على تسجيل هواجسها، وإلا كانت فضائح فظيعة..

ربما يتمكن الدواء الذي ينهك الجسد من إيقاف ألم الرأس.. ربما..

قد يصلان في وقت واحد، وقد أخذ الإنهاك منهما كل مأخذ..

قد نلتقي على طاولة في الشام.. أشتاق لكرسيين بسيطين.. أرجو أن يكون وتلاشت الصورة العنكبوتية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن