لو كان ربع الدمار الذي أوقعه الكيان الإسرائيلي بقطاع غزة قد أصاب الكيان، لفر نصف المستوطنين إلى أوطانهم السابقة التي يحملون هويتها وجنسيتها بحثاً عن ضمان أمنهم وحياتهم، لأنهم من مواطني تلك الدول، مع أن أرقاماً إسرائيلية تشير حتى الآن إلى فرار عشرات الآلاف من المستوطنين إلى تلك الأوطان خلال الخمسين يوماً التي مرت على عملية طوفان الأقصى وما كبدته من هزيمة للكيان كله.
وزير الدفاع في الكيان يوآف غالانت زار أول من أمس الأحد مواقع عسكرية في شمال فلسطين واجتمع بقادة قوات جبهة الشمال التي تواجه جبهة المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان وأعلن من هناك بموجب ما ذكرته صحيفة «يسرائيل هايوم» أمس أنه «يطلب عودة عدد من عائلات المستوطنين في الشمال إلى مستوطناتهم رغم أن الوضع لن يكون كما كان قبل السابع من تشرين»، وهذا يعني برأي المستوطنين أن بقاءهم هناك سيظل محفوفا بالخطر وخاصة بعد أن انتقل عشرات الآلاف منهم إلى وسط الكيان ويقيمون في الفنادق على نفقة الحكومة.
لا يوجد في مدن الكيان وبلداته ملاجئ تتسع لإيواء مئات الآلاف ولذلك تستعين المستوطنات بإقامة غرف صغيرة يقال إنها محصنة تتسع لعائلة وتكون قرب الوحدة السكنية الاستيطانية، وحين أطلق غالانت تصريحه بدعوة المستوطنين للعودة إلى مستوطنات الشمال رد عليه رئيس مجلس مستوطنات الشمال موشيه دافيدوفيتش وهو يعد رئيس الجبهة المدنية الشمالية قائلا، بموجب ما أوردته الصحيفة نفسها: «إنني أرفض ما أعلنه هذا الوزير لأن ما قاله يعد هلوسة، وإذا كان يظن أن المستوطنين في الشمال سيسكتون على أن يقع لهم ما وقع على مستوطنات غلاف قطاع غزة وخاصة مستوطنة كفار عزة، فهو مخطئ لأننا نرفض أن يتحول المستوطنون في الشمال إلى لحم لقذائف حزب الله»، وحذر دافيدوفيتش غالانت والحكومة من «خداع المستوطنين» وقال: «إننا نطالب الحكومة بإبعاد خطر حزب اللـه وقوات الرضوان إلى ما وراء نهر الليطاني، ونقول للحكومة إن المستوطنين في الشمال لن يقبلوا أن يصيروا دروعاً بشرية للجيش الإسرائيلي».
من الواضح أن معركة «طوفان الأقصى» فرضت أزمات ومعضلات داخلية يصعب حلها، وبعضها يتعلق بالميزانية المتزايدة للكيان على نفقات إقامة المستوطنين الذين فروا من مستوطناتهم وأقاموا بالفنادق وفي البيوت المستأجرة وعددهم يزيد على 300 ألف، ستون ألفاً منهم في مدينة إيلات عند ساحل البحر الأحمر، ولا شك أن دعوة غالانت للمستوطنين بالعودة إلى مستوطناتهم لن تلقى قبولا في هذه الظروف المستمرة للعمليات الحربية بين المقاومة وجيش الاحتلال على عدة جبهات ناهيك عن انعدام الثقة بين المستوطنين والجيش بعد كل ما جرى في السابع من تشرين أول الماضي، ومن الجهة الأخرى يواجه جيش الاحتلال نقصاً في عدد قوته البشرية وقدرتها على تنفيذ المهام حتى بعد أن استدعى جميع قوات الاحتياط بدفعة واحدة وعددها 360 ألفاً، وهذا ما دفع قيادة الجيش إلى التبكير في استدعاء المجندين الجدد الذين كانت قد أرجأت التحاقهم بالخدمة في شهر أيلول، فقد نشرت صحيفة «يسرائيل هايوم» أمس أيضاً مقالاً للصحفية ليلاخ شوفال تكشف فيه أن غالانت طلب تأمين تجنيد جميع المسجلين الجدد من أجل الالتحاق بالخدمة العسكرية فوراً، وهذا يدل على أزمة في القوة البشرية، علماً أن هناك الكثيرين من قوات الاحتياط استنكفوا عن التجاوب مع نداء استدعائهم بسبب معارضتهم لمشروع تعديل النظام القضائي الذي أراد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو فرضه في الكنيست – البرلمان قبل أشهر، وذكرت الصحفية شوفال أن مدة الخدمة الإلزامية في جيش الاحتلال جرى تخفيضها إلى 32 شهراً في عام 2015 ثم تقرر تخفيضها مرة أخرى في تموز 2020 إلى 30 شهراً ثم تقرر إعادتها إلى 32 شهراً حتى عام 2024 وإلى ما بعد ظهور قرارات أخرى، وهذا يدل على التخبط المستمر في مسألة تأمين قوة بشرية عسكرية مستقرة ومؤهلة لشن الحروب، كما أنه من الواضح أيضاً وجود انعدام شبه كامل لهجرة اليهود إلى الكيان منذ سنوات، بل إن الكيان لم يتمكن من تعويض القوة البشرية المدنية الاستيطانية الإسرائيلية التي هاجر منها خلال ثلاثين عاماً أكثر من مليونين إلى أوطانهم السابقة، وهذه الحقيقة هي التي دفعت الولايات المتحدة إلى إرسال حاملتي طائرات خوفاً من تزايد تدهور قوة الكيان الذي لم يشهد وضعاً ضعيفاً كهذا الوضع منذ تأسيسه على أرض فلسطين.