ثقافة وفن

المبدعون هم من وضعوا الرقابة على إبداعاتهم وتخلوا عن أدوارهم! .. مثقفو السلطة الذين يفعلون كل ما يمكن لمصلحتهم لا يزالون أسياد الساحة! … هيكل: إذا كنا نحاور العدو الإسرائيلي فلم لا نتحاور بيننا؟!

| إسماعيل مروة

في الأزمات والحروب تجود القرائح والإبداعات بالكثير الذي ينقل صورة هذه الأزمات وما في الحروب من ويلات وانتصارات وما شابه ذلك، وربما ينقل الإبداع التجاوزات التي تحدث في هذا المكان أو ذاك، ويكون الأمر أكثر إبداعاً وسهولة إذا توجه الأمر صوب العدو الحقيقي في مواجهة البلدان، وهذا ما كان في كل الحروب التي خاضها العرب ضد العدو الصهيوني، ومن قبل الاستعمار الغربي، ومن قبل الاستعمار التركي، وعندما نشبت الحروب والأزمات في البلدان العربية، والتي أطلق عليها ظلماً (الربيع العربي) اختلف الأمر، فقد وجد الإنسان نفسه في مواجهة شريكه وابن بلده، إذ تم استبدال الحوار وحلّ محله العنف الذي تجاوز كل حد من الحدود، واستمرت الحروب أزماناً تجاوزت كل الحروب التي جرت مع العدو الصهيوني، وقدمت البلدان من الضحايا ما يفوق كل ما قدمته في حروب رسمية في عقود متتالية!

الإبداع والحرب
هل يصح أن يتم إصدار الإبداع تحت ظلال الحرب وفي أثناء استعار نارها؟ مهما تعددت أطراف هذه الحروب، والسؤال الأصح من الناحية النقدية: هل يصل الإبداع مرحلة متقدمة إبداعياً إذا كتب في أثناء الحروب؟
مهما كانت الحروب، ومهما تعددت أطرافها فإن الحديث عنها بالتفصيل يدخل الإبداع في أخطار عديدة:
1- التوثيق الذي يخلو من الإبداع، ويعتمد التسجيل وحسب.
2- عدم وضوح الرؤية، وعدم تكشّف القضايا من جوانبها كافة.
3- الانحياز إلى جانب على حساب آخر، وقد تكشف الوثائق ما يخالف هذا الانحياز.
وفي إطار الحرب على سورية وفي سورية منذ سنوات خمس، كان الأمر أكثر تعقيداً، فأطراف المعادلة من الداخل والخارج، ولبست الحرب لبوساً مطلبياً في البدايات، ولكنها تحولت عنها، وصارت المطلبية أكثر إلحاحاً، لكن أحداً لا يلتفت إليها، وصارت المطلبية وقسوة الحياة والغلاء والعجز مسؤولية الأطراف جميعها، ولم تعد مسؤولية الدولة وحدها، وبذلك استطاعت هذه الحرب أن تخلي طرف الدولة عن مسؤوليتها تجاه مواطنيها الذين من واجبها رعايتهم!
إضافة لأطراف الصراع والحرب الداخليين، فقد اشترك في الحرب جهات إقليمية وعالمية، وانضم إلى هذه الحرب العمياء كل من لفظه مجتمعه، وصارت الأرض السورية مسرحاً تجريبياً عبثياً! ويخطئ ذلك الذي يحصر الأمر اليوم بين طرفين ،ويخطئ من يذهب إلى أن اتفاق الجهتين الداخليتين قادر وحده على الانتهاء من هذه الأزمة التي طالت كل شيء.

الجائزة والعناد
الراحل باتريك سيل كتب ذات يوم (الصراع على سورية) ومع أن الكتاب ترجم، لكنه لم يقرأ كما يجب، ولم يحظ بالعناية اللائقة من الساسة والمنظرين والمفكرين، ولم يشكل الكتاب على فخامته وتوفره فرصة لإعادة القراءة، واكتفى الكثيرون بالحديث عن الرئيس الأسد وما يدور حوله، مع أن الكتاب ركز على قضايا عديدة، لعل من أهمها أن فترات الانقلابات وعدم الاستقرار قبل حافظ الأسد كانت مدروسة ومقصودة، وكان مطلوباً من سورية ألا تستقر لما تشكله من نافذة عريضة على شرق المتوسط، ومنذ عام 1970 مع مجيء الرئيس الأسد أخذت سورية شكلاً مختلفاً من الاستقرار، مع ما يشوب هذا الاستقرار من إجراءات يشعر بعضهم الغبن فيها، ومن تقريب لدوائر واستبعاد لأخرى، ولكن الغاية الأساسية كانت تحقيق الاستقرار لبلد ما عرف الاستقرار منذ الاستقلال وحتى عام 1970، والمتابع اطلع على أن حقبة الاستقرار هذه حققت الكثير للسوريين ولسورية، على الرغم مما حاق ببعض الناس والشرائح من غبن بغض النظر عن الانتماءات القومية والقبلية والحزبية والطائفية والمذهبية!
وكان المطلوب إجراء دراسات ميدانية وإحصائية واستقصائية لهذه التجربة التي جعلت سورية لاعباً رئيسياً في المنطقة، والتي جعلتها رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه وفعل شيء من دون النظر إليه! ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وبقيت التجربة الفريدة طي الأذهان، وابتعد النقد عنها ،وتضخمت المصالح على حساب الشرائح التي ظلمت من كل المناطق والانتماءات.. وكان حرياً بهذه التجربة أن تدرس وتقوّم كل فترة لتتم الاستفادة بغية الاستمرار في الصعود والتنمية!

غاب الإبداع
ضاعت الآداب التي تشرّح وتهدي وبعبارة أكثر وضوحاً: تنازل الأدباء عن أدوارهم واختفوا وراء مصالحهم الفردية ورؤاهم الضيقة في الخلاص الفردي، وليس صحيحاً الادعاء بعدم وجود مبدعين، كما لا يصح الادعاء بأن الأدباء لم يكونوا قادرين على القول والنقد والإفصاح، فسورية فيها آنذاك نزار قباني وبدوي الجبل ونديم محمد وأدونيس والماغوط والسلسلة تطول، وقد أفسحت لهم المنابر، وقالوا الكثير، وبعض الذين عملوا في تلك الحقبة يذكرون أن أي محاولة إسكات كانت تصل إلى الرئيس وكان يجيز النشر والإبداع الذي حاول ضيقو الأفق مصادرته!
لكن هؤلاء المبدعين أنفسهم يتحملون مسؤوليات كبرى، فهم الذين وضعوا الرقابة على أنفسهم، وهم الذين ضيقوا على إبداعهم، وهم الذين تركوا الساحة! وفي كل زمان يعلم المثقفون أنهم هم من يضع الخطوط الحمراء، وهذه الخطوط لا وجود لها إلا في أذهانهم وأجواف خوفهم، فمادام الكاتب لا يطول الوحدة الوطنية، ولا يهين الرموز كما تعارف العالم أجمع، ولا يثير النزعات لن يقترب أحد منه إلا في وهمه!
ولم أكن أدرك ذلك قبل دخولي أوساط الكتابة والصحافة، ولكن مع دخولي منذ ثلاثين عاماً، ولا أزال أمارس الكتابة، وأظني سأستمر ما دامت الحياة، وأزعم أن تجربتي تخولني أن أقول بأنني قلت ما أريد دوماً، ولم يمنع أحد لي حرفاً واحداً، وانتقدت ولا أزال رجالاً في السلطة، وسواء انزعجوا أم استجابوا لم يسال أحد، ولم يضع أحد حداً لما أقول، ولم يطلب أحد مني أن أكتب حرفاً واحداً في سياق!
وسواء كان الصمت من باب: كلام جرايد أو ما شابه، أو من باب الإهمال، فإنني أرى أن الرقيب أنا من وضعه، والعداء أنا من صنعه أو منعه، وجلّ الذين انتقدت أداءهم وبقسوة تميزت علاقتي الشخصية بهم بالتصالح.
أذكر هذا لأقول إن الرقيب من صنعنا، وليس مفروضاً، ولو أن الكتاب والمبدعين لم يتنازلوا عن أدوارهم لشكلوا خطاً قادراً على الانتقاد والإصلاح مهما كانت المقاومة من المصلحين، الإصلاح لا الثورة والدمار، لا الفوضى والإرهاب، منذ أيام قرأ عليّ صديق ناقد متابع أجزاء من حديث الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، والذي يخص به سورية وما يجري على أرضها من إرهاب، لأجد الأستاذ هيكل يعيد مقولاته ومقولة باتريك سيل، والتي تتلخص بأن الصراع هو على سورية وليس على الأشخاص، ما دفعني إلى العودة وسماع الحديث بتمامه، فهل استمعنا إلى هذه الخبرة التي جاوزت السبعين عاماً خبرة لا عمراً من خروتشوف إلى روزفلت وتشرشل وتيتو ونهرو وعبد الناصر وكل الزعماء الذين التقاهم وسمعهم ودوّن تجاربهم..؟
سمعنا من الأستاذ الكبير هيكل كلاماً مهماً: إذا كنا نتحاور مع إسرائيل، فلم لا نتحاور فيما بيننا؟ وسمعنا منه أنه إذا تركنا أنفسنا للرياح العالمية، ولمصالح العالم الذي يعد سورية جائزة المتوسط وشرقه، فإن أي شيء يمكن أن يحدث!!
قبل أربعين عاماً كتب باتريك سيل، ومعه كتب هيكل، واليوم يتحدث هيكل وهو من هو في الرأي والخبرة والمعرفة والاطلاع، بل التواصل مع العالم بنخبه وزعمائه شرقاً وغرباً، فلم يأن الأوان لمبدعينا أن يتكلموا؟ أم إن دورهم يقتصر على نقل قول هيكل وروبرت فيسك وسواه؟ ودورهم يقتصر على التقاط عبارة شاردة في الصحراء أو باكستان أو أفغانستان تؤيد موقفه ليقوم بنشرها وتفصيلها والحديث عنها بإسهاب ما بعده إسهاب؟!

آن للمثقف السوري أن يترجل
نتباهى دوماً بأننا شعب مسيّس، ولكن الحرب التي تدور رحاها في سورية بأسماء دقيقة تونسية و ليبية وشاشانية وفرنسية وبلجيكية، أثبتت بما لا يقبل الشك أننا شعب منقاد وغير مسيس، فلو كنا حقاً كما ندّعي السياسة والمعرفة، لكان بإمكاننا أن نفعل شيئاً من دون أن يتدخل شذاذ الأرض بنا! فبعد أن كانت سورية المقررة وصاحبة الرأي عربياً إلى وقت قريب، ولن ينسى الناس ذهاب الرئيس بشار الأسد والملك عبد الله إلى بيروت، بعد أن كانت سورية في ذلك الموقع، أصبح أتباعها يتجرؤون عليها، ويتدخلون في شؤونها، وصار للبنان مخابرات وأصابع في سورية! وصار لكل من هبّ ودبّ في العالم أجهزة مخابرات تعمل في بلدنا، وسواء أكنت مع النظام أم ضده ألا تستيقظ العصبية لدي، حتى لا أقول المعرفة السياسية؟! ألا يستفزني أن يأتي أحدهم، وكان حارساً على الباب ليأمر وينهى ويقرر؟
كيف استطاع الهبل من كل اتجاه ورأي أن يقتنعوا وأن يقنعوا وأن يدافعوا عما يجري على أرض سورية وأن يبرهنوا على أنه حرب طائفية وإثنية وأهلية ومذهبية، وما شابه ذلك من ألفاظ رنانة تستحث العاطفة والغريزة لدى المتابع والمشاهد.
ولن يستطيع أحد أن يدافع بأن المواطن السوري لم ينجذب، ولم تستثره كل هذه الأقاويل والمحاور ولن يستطيع أحد من النظام أو المعارضة أن يدعي أن السياسة والمعرفة والثقافة لدى السوري كانت أقوى.
عيب، فالسوري بمختلف أطيافه، انساق وراء ما يجري سواء كان في النظام ويريد أن تستمر مصالحه في التحقق، أو كان في المعارضة سياسية ومسلحة، ولا يريد لسيل التمويل والدولارات أن يتوقف عنه، وسواء هذا أو ذاك لم يدر أنه عندما تنتهي مهمته سيبدأ التغيير، وسيتحول الأمر من حال إلى حال، فمن يلعب في الداخل على وتر الخلاف ليبقى في مكانة ما، عندما تتم الأمور سيخرج، فلماذا لا يعمل على مصلحة سورية والنظام ومصلحته بالتزامن والتعاضد؟ ولماذا يصر على تقديم أنموذج سيئ مكروه ومرفوض حتى من أولي الأمر في النظام؟ والذي في المعارضة مهما كان نوعها لماذا لا يقرأ جيداً ويقول: إن كل تغير سيتبعه تغير، وكل موقف سيتبعه آخر، والمسيح يقول: ما فائدة العالم إذا كسبت وخسرت نفسك؟
المواطن الذي كان يكفيه مرتبه على مضض، اليوم يحتاج إلى مضاعفة مرتبه مرات خمساً أو ستاً، فهل منا من لا يشعر بنا؟ هل منا ذلك المسؤول الذي ينجز مشروعاً إعلامياً أو فردياً بالملايين والناس تتلوى جوعاً في العتمة؟
وهل منا من يفرض على المناطق طوقاً من العزلة، يرفل بآلاف الدولارات والناس لا تجد لقمة خبز.
علينا أن نكون واضحين وشفافين في تناول ما يجري في سورية، فالناس وهم الحاضن للوطن والحضارة أصبحوا مشتتين في الخارج والداخل، وفي الداخل أخطر بكثير، والناس أدركوا عبثية الحرب وما يجري في سورية اليوم ويريدون الخلاص.
فأين من يقودهم؟
أين أصحاب الرأي؟
أين المبدعون والأدباء؟

الغياب وأثره
مما لا شك فيه أن المثقف الحقيقي غائب عن الساحة، تخلى عن دوره منذ زمن بعيد، ولم يعد له من مكان في الساحة الثقافية السياسية، فالسلطات العربية، والسورية ضمناً، صنفت المثقفين إلى صنفين إما مع السلطة يردد ما تردد، ويحفظ ما تحفظ، أو ضد السلطة لا يقبل منها شيئاً وإن كان في مصلحة الوطن!
المثقفون الذين غابوا عن المشهد، ولم يتناولوا تجربة الاستقرار السوري لا يزالون غائبين، ومثقفو السلطة الذين يفعلون أي شيء، وهم يدركون أنه ضد المصلحة العامة والثقافية لا يزالون أسياد الساحة، وكل واحد منهم يتبرع بالانبطاح ما شاء الله له! ولكن المضحك المبكي المؤلم الهزلي الذي لم تتعلم منه السلطات العربية أن المثقفين الذين تصنعهم- وهي أدرى بمن صنعتهم – ما داموا يتبؤون المناصب ويأخذون المكاسب وهم ما إن يغادروا الموقع حتى يبدأ أحدهم بالحديث عن السلطة والمسؤولين، وأنهم كانوا وراء عجزه لأنهم لم يسمحوا له بفعل ما يريد فعله! هذا إن بقي في البلد، فبعد أن كان يباهي على الناس بجلوسه مع المسؤولين في كل مناسبة صاروا خصومه، وبدأ بتعريتهم، ويصل الأمر إلى حدّ يدّعي فيه أنه صنعهم! وإن غادر البلاد تحول إلى داعية إسلامي أو ما شابه، ويبدأ التراتيل والأدعية والصلوات، كأنه لم يغن بالأمس، ولم يكن جزءاً من السلطة والنظام!!
مع كل الدروس المستفادة لم يقدم المسؤولون على تغيير سياسياتهم تجاه الثقافة والمثقفين، وبقوا على حروبهم مع المثقفين الأحرار، وهم في قرارة أنفسهم يعلمون الحقيقة، ويعلمون أن الأحرار لا يريدون المكاسب، ولن ينقلبوا في يوم! ليس مطلوباً استيعابهم، فعيب أن يتم استيعاب الحر، لكن المطلوب أن يصبح لهم رأي، وأن يستمع إلى هذا الرأي؟ وأن يؤخذ بهذا الرأي، وكل ذلك لإعادة الصوت الغائب من المثقف والمبدع، فغياب الصوت المبدع الحر غير المصنف أسهم في تكريس التصنيف، فصار المبدع ولو في آخر الدنيا إن قال رأياً وافق هذا أو ذاك صنف ورفض وقبل!
لم تكن الثورة الفرنسية لولا آراء جان جاك روسو، ولم يستطع أحد إهمال جان بول سارتر، لذلك عاشت تلك الثقافات وماتت ثقافاتنا.

تغييب المثقف والعادة
لا يحق لنا أن نلوم المثقف دوماً على غيابه، فقد يكون غيابه بفعل فاعل، أي يكون تغييباً! فكم من إنسان محدود المكانة، محدود الأفق وصل إلى مكانة مرموقة في الدول العربية جمعاء، فحاول من موقعه المتنفذ تغييب المثقف؟! هل يغيب عن الذاكرة العربية ما فعله المثقفون المصريون مع نزار قباني بعد صدور ديوانه (هوامش على دفتر النكسة) اليوم نردد الحكاية لأن نزار قباني لم يسكت وخاطب عبد الناصر، ولكن كم من شاعر وأديب ومثقف تم تغييبه ولم يصل صوته؟!
كم من الأفلام والروايات استنتج الرقباء الأجلاء أنها تنتقد الحاكم فقاموا بمنعها؟! ألم يقرأ الرقيب في عبارة (جواز عتريس من فؤادة باطل) على أنها تقصد الرئيس عبد الناصر، ولم يسمح بعرض الفيلم إلا بإذن من الرئيس عبد الناصر؟ ألا يعرف المتابع قصصاً مشابهة في كل بلد عربي؟! المشكلة الحقيقية في أن المثقفين هداة، وهم المنارات التي يسترشد بها الحكام، وعندما يتم تحويل هؤلاء المثقفين إلى مجرد أبواق للسلطة يفقدون أي قدرة على التأثير!
المناخ الموبوء، المملوء بأنصاف المثقفين وبالجهلة أسهم إسهاماً شديداً في ابتعاد المثقفين الحقيقيين والمبدعين القادرين عن المشهد، وهذا الغياب إن لم يكن من المثقف نفسه، فإنه يكون من المسيطرين على الفعل الثقافي! فروائي وقاص بمستوى حيدر حيدر يعتكف منذ سنوات طويلة في حصين البحر، لا يجري لقاء ولا يقدم رأياً، ولا يعلق على أمر ما، ولم ينتبه أحد من المثقفين الذين يتولون أمر الثقافة إلى غيابه، ولم يشعر أحد بهذا الغياب إلا منذ سنوات عندما أحدثت روايته (وليمة لأعشاب البحر) ضجة عند نشرها من جديد في مصر!
انتبه المثقفون وانتبهت الصحافة إلى أن حيدر حيدر صاحب (الفهد) موجود بيننا، ولكننا لم ننتبه إلى غيابه!
عندما يكون هذا حال مبدع بمستوى حيدر حيدر ماذا يكون حال المثقفين الذين يرون ما يتم التعامل معه به؟
وعندما يكون (مالفا) عمر حمدي الرسام العالمي السوري بيننا، يزور سورية، يحتفي بها ويحبها، وينقلها إلى العالم، وينتمي إليها بفخر، ونحن لا نذكره ولا نتذكره، ولا نحتفي بأعماله كما يليق بأمثاله، ونتذكره عند وفاته فقط! وعندما يكون المبدع العالمي فاتح المدرس بيننا، لم يغادر بلده، ولم يعمل في سواه، وصل إلى أعلى المستويات، ويرحل عنا، ولا نجد أي أفلام عنه، ولا نجد أي توثيق ممنهج للوحاته ورسوماته وإنجازاته، فماذا نتوقع ممن ملك الإبداع المماثل؟!
إن تغييب المثقف لا يقل خطورة عن غيابه، وغيابه أقل خطورة، فإن كان غائباً لعدم وجوده على المجتمع أن يخلق المناخ الملائم لإيجاد المثقف الرائد، وليس كما ادعى يوماً أحد وزراء الثقافة السوريين بأنه ليس من مهمة وزارة الثقافة خلق المبدعين!
لا أيها السيد، لا أيها السادة الذين تتبنون الرأي ذاته، من مهمات وزارات الثقافة أن تخلق المثقفين من العدم، بتقديم المناخ والجوائز والحوافز والبيئة، ولا تقتصر مهامها على إعداد ندوات للمسؤولين، ولا على طبع كتب الأحباب والأصحاب!
وإن كان غياب المثقف خياره، فله ما أراد إلا إذا كان هذا الغياب موقفاً ورداً على إساءات، وأذكر أن الشاعر أدونيس قيل عنه الكثير منها أنه لا يتحدث لصحيفة سورية،ومنها أنه لا يجري حديثاً من دون مقابل، ومنها، ومنها… وحين جلست معه جلسة الصديق القارئ المحب الباحث عن المعرفة، وحين تأكد أن كلامه سيحترم بأمانة أعطى «الوطن» حواراً لم يعطه لأي دورية أخرى ومن دون أي مقابل، ومن دون اكتراث بوقت وجهد، ولي أن أتخيل لو أنني استمعت لكل تلك الآراء هل كنت سأجري هذا الحوار الذي كان منعطفاً في ثقافتي وفي حوارات أدونيس، وهو نفسه استغرب أن ينشر بكل هذا الاحترام، ومن دون حذف كلمة واحدة منه!

ماذا لو تعاملت معه تعامل الرقيب
السياسي والاجتماعي والديني؟
غاب أدونيس عن المشهد لأنه لا يتم التعامل معه بتاريخ وتجربة، وعندما أثرت معه قضية التكريم قال: لا يمكن أن يتم تكريمي في بلد فصلني من عضوية اتحاد الكتاب العرب بتهم غير صحيحة، ناهيك عن أن هذا التصرف فيه إساءة بالغة لحرية الإبداع! وتحاورت يومها مع رئيس اتحاد الكتاب العرب، ولم يحدث شيء!! ماذا يخسر اتحاد الكتاب العرب لو تفضل بالاعتذار لأدونيس وإعادة العضوية إليه؟! ماذا سيكسب أدونيس من هذا الأمر لو حصل؟!
لا شيء، والذي يكسب هو اتحاد الكتاب، لأن رجلاً بوزن أدونيس وحده اتحاد للكتاب على مستوى الإقليم والعالم، ويفاخر أي اتحاد أن يحمل اسمه! ولكن هل يحتمل بعض المثقفين اسماً مثل أدونيس؟
الحديث يطول، ولكن منظمة مثل اتحاد الكتاب تضم المبدعين والمثقفين من المفترض ألا تكون تابعة تبعية سياسية مباشرة، وعلى القرار السياسي ألا يتحكم بها بشكل مباشر، وأن يترك المجال واسعاً لوطنية المبدعين وانتمائهم أن يتحكما في تحديد المسار، ولكن أن يكون كوكبة المبدعين والمثقفين رهن موقف سياسي مهما كان نبيلاً يجعل المؤسسة رهن الأهواء، ويزداد الارتهان إذا تولاها من لا يتنفس من دون إشارة!

البيئة المثقفة
كل ما جئت عليه في هذه الحديث، وفي أحاديث أخرى لا ينكره أحد، والشواهد كثيرة وملموسة، والأنكى أن من أفقد البيئة المثقفة قيمتها هو نفسه يخرج منها لينتقد بعد أن حصد كل شيء، وأن بعضهم هو الذي افقد المؤسسات الثقافية دورها حين أعطى أمرها لأناس جيدين، لكنهم ليس لديهم أي مشروع ثقافي!!
البيئة المثقفة الحاضنة للثقافة والرأي بحاجة إلى إنعاش، وإذا لم تنتعش الثقافة فلا قيمة لأي فعل اقتصادي أو اجتماعي وحتى سياسي! ولا بد من إعادة الاعتبار للمثقف الحقيقي..
المثقف الحقيقي ليس الثرثار الذي له في كل عرس قرص!
المثقف ليس الباحث عن موقع أو منصب!
المثقف ليس المنتقص للناس، وإنما ذلك الذي يفصل بين الرأي والشخصنة!
المثقف هو صاحب الرأي الذي لا يريد شيئاً!
هل يعرف الكثيرون أن عبد السلام العجيلي لم ينتسب إلى اتحاد الكتاب، وكان مكتفياً بنقابة الأطباء؟!
هل يعلم الكثيرون أن وزارة الثقافة لم تعد تتعامل مع المعارض التشكيلية كما السابق؟!
هل يعلم الكثيرون أن تشجيع الكتاب الحقيقيين لا يتم، ولا تشترى أعمالهم، اللهم إلا إذا استثنينا الكتب التي يحمل أصحابها التعاميم، وهي ليست كتباً ذات قيمة؟!
كل هذا أفقد الثقافة بيئتها، لذلك تبدأ الحرب وتنتهي، ولا نجد قصيدة ذات قيمة، ولا نسمع بقصة أو رواية، وإن وجدت مثل هذه النصوص تم التعتيم عليها، والحرب التي تجري اليوم على أرض سورية وعلى سورية كما أشار باتريك سيل وهيكل تحتاج إلى أقلام صلبة، إلى مثقفين حقيقيين، ليسوا أنصاف شعراء وأنصاف مثقفين وأنصاف نقاد وأنصاف روائيين… الحرب العاتية على الهوية تحتاج مثقفين بحجم الحرب وبحجم الهوية.. فهل نعمل ونتدارك الأمر الواقع؟ وهل نخرج من الأزمة والحرب وقد أدركنا خطورة الثقافة؟!
كل الدلائل تشير إلى أننا لا نفعل شيئاً، فعسى للمارد أن ينتقض ليخرج بالثقافة من القمقم إلى قمة قاسيون وحرمون والشيخ والزاوية، وكل قمة من أرض سورية العظيمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن