قضايا وآراء

«للأبد سأكون أسيرة شكر»

| منذر عيد

بين الميدان وسياسة التفاوض، سقطت جميع رهانات الكيان الإسرائيلي في عدوانه على قطاع غزة، لجهة القضاء على المقاومة الفلسطينية في أرض المعركة التي ارتكب جيش الاحتلال خلال ثمانية وأربعين يوماً ما لم ترتكبه النازية من جرائم إبادة بحق المدنيين، أو لجهة شيطنة العمل المقاوم، عندما ظهر للجميع طريقة معاملة رجال المقاومة للأسرى الإسرائيليين الذين في حوزتهم، بل إن البعض منهم نال حريته الجسدية، إلا أنه بقي بإرادته أسير شكر أبدي للمقاومة.

كما في معركة الميدان، برع المقاوم الفلسطيني في معركة التفاوض وإدارة ملف تبادل الأسرى والمعتقلين، حين فرضت المقاومة، شروطها ورؤيتها لمجريات الصفقة، بل إن حنكة المفاوض الفلسطيني جعلت من قادة الكيان رهن إملاءات ومعادلات المقاومة، بعد أن عجزوا عن تحقيق أي من أهداف العدوان الذي شنوه على القطاع، فبات جميع قادة الكيان من أمنيين وعسكريين وسياسيين في حالة ذهول ثانية مع بدء عملية تسليم الأسرى، توازي حالة الذهول الأولى التي دخلوا بها مع اللحظات الأولى لعملية «طوفان الأقصى»، لتنقل صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية عن ضابط كبير في هيئة الأركان العامة الإسرائيلية قوله: «لقد فشلنا في أن نفهم أن الخطة التي دُبرت أمام أعيننا أصبحت أمراً، لا نحن، ولا الشاباك، ولا الموساد الذي كان يراجع كل التقارير كمدقق، ولا حتى فرق المراقبة على تقييمات الوضع، ولا نعرف متى اتخذ (رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار) قرار تحويل الخطة إلى أمر تنفيذي، ولا نعرف السبب أيضاً».

لقد كشفت الهدنة، قدرة المقاومة على الاستمرار في عملها، وعدم تمكن الاحتلال بعد ثمانية وأربعين يوماً من العدوان من كسر شوكتها أو النيل من صمودها وعزيمتها، بل إن المقاومة أثبتت في اليوم الثاني من عملية تبادل الأسرى، عبر تأجيلها الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين بسبب عدم التزام الكيان ببنود الاتفاق، وتمسكها في مسألة تحديد الأقدمية لمن سيتم الإفراج عنهم من الأسرى الفلسطينيين، أن كلمتها هي العليا، وأن العدوان لم يفل من عزمها أو عزيمتها.

لقد أرهقت إدارة كتائب القسام المنضبطة لصفقة وحيثيات وإجراءات عملية تبادل الرهائن والأسرى، قادة الكيان، لجهة التكتيك والمفاجآت التي صعقت وأرهقت أجهزة الموساد والاستخبارات والشاباك الإسرائيلية، خاصة في يومها الأول، حيث تم تحديد نقطة التسليم في إحدى مناطق عزبة بيت حانون، القريبة من الحدود الإسرائيلية المفترضة مع القطاع، ووسط غابة من المدرعات والآليات الإسرائيلية.

لم تقتصر نجاحات وانتصارات المقاومة الفلسطينية، في ملف تبادل الأسرى على تمكنها من انتزاع حرية عشرات النساء والقصر الفلسطينيين من سجون الاحتلال، بل إنها حققت نصراً في تعزيز صورة الكيان الإرهابية، عبر مقارنة العالم أجمع بين صور الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، وصور الأسرى الفلسطينيين الخارجين من سجون الاحتلال، ليسجل الإعلام ويرصد خروج الأسرى الإسرائيليين وهم بحالة نفسية وصحية جيدة، إلى حد دفعت بالعديد منهم إلى توجيه كلمات ورسائل شكر للمقاومة على حسن معاملتها وتأكيد البعض منهم أنهم سيكونون للأبد أسراء شكر للمقاومة، تقول دنيال وابنتها إميليا التي كانت بأيدي مقاتلي القسام وتم الإفراج عنها في صفقة التبادل في رسالة مكتوبة للمقاومة: «للجنرالات الذين رافقوني في الأسابيع الأخيرة يبدو أننا سنفترق غداً، لكنني أشكركم من أعماق قلبي على إنسانيتكم غير الطبيعية التي أظهرتموها تجاه ابنتي إميليا، كنتم لها مثل الأبوين، دعوتموها لغرفتكم في كل فرصة أرادتها، هي تعترف بالشعور بأنكم كلكم أصدقاؤها ولستم مجرد أصدقاء، وإنما أحباب حقيقيون جيدون، شكراً على الساعات الكثيرة التي كنتم فيها كالمربية، شكراً لكونكم صبورين تجاهها وغمرتموها بالحلويات والفواكه وكل شيء موجود ولو لم يكن متاحاً.. ابنتي اعتبرت نفسها ملكة في غزة، لم نقابل شخصاً في طريقنا الطويل هذا من العنصر وحتى القيادات إلا وتصرف تجاهها برفق وحنان وحب، أنا للأبد سأكون أسيرة شكر، لأنها لم تخرج من هنا مع صدمة نفسية للأبد، سأذكر لكم تصرفكم الطيب الذي منح هنا على الرغم من الوضع الصعب الذي كنتم تتعاملون معه بأنفسكم والخسائر الصعبة التي أصابتكم هنا في غزة، يا ليت في هذا العالم أن يقدر لنا أن نكون أصدقاء طيبين حقاً، أتمنى لكم جميعاً الصحة والعافية، صحة وحباً لكم ولأبناء عائلاتكم، شكراً كثيراً».

هي عين الكاميرا ذاتها رصدت من الجانب الإسرائيلي خروج الأسرى الفلسطينيين ولكن بشكل إجرامي على يد قوات الاحتلال، ليكون الطفل المحرر محمد نزال وهو مكسر اليدين شاهداً على إرهاب السجان الإسرائيلي، وليؤكد الطفل الأسير المحرر أسامة نايف مرمش أن الجيش الإسرائيلي يفتح المياه على السجناء رغم برودة الطقس، وأن الطعام المخصص للسجناء قليل جداً.

بين صورة خروج الأسرى الفلسطينيين، وكأنهم كانوا دهراً أسرى لدى الاحتلال من سوء المعاملة، وصورة خروج الأسرى الإسرائيليين وكأنهم ضيوف، تسقط جميع الروايات والسرديات الإسرائيلية، ويسجل المقاوم الفلسطيني نصراً جديداً، سيتحتم على المحتل العمل سنوات وسنوات، إن كان يملك من الوقت الوجودي لترميم صورته التي انهارت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن