اقتصاد

التّغافل هو ورقة التوت التي تسترنا!

| د. سعـد بسـاطـة

كلنا قرأ تلك الحادثـة الطريفة التي كانت نهايتها وبالاً عـلى الشركة.. موظف متميـّز بأدائه؛ و«بتاع كلو» كما يقولون.. تقدّم بطلب إجازة للسفر برحلة مع رفاقه؛ فرفـض المدير بمبرر أن هذا عـز موسم العـمل والتسويق؛ فما كان منه إلا أن تمارض وأرسل تقريراً طبياً لعـدة أيام؛ حينها عـسكر المدير بلؤم ظاهر أمام بيت صاحبنا؛ وفي ساعـات الصباح الباكر أمسكه مسك اليد حاملا عـدة الصيد وحقائب الإجازة؛ ذاب الموظف خجلاً.. وشعـر المدير بالظفر؛ ولم يتبادلا أي كلمة؛ ثم حسم له أجرة الأيام المفقودة… بعـد انتهاء الإجازة المزعـومة، جاء صاحبنا للشركة؛ يجر أذيال الخيبة؛ وتقدّم باستقالته؛ وبذا خسرت الشركة كفاءته وخبرته (لقاء انتصار سخيف حققـّه المدير وقتياً)؛ فمن الخاسر الفعـلي في هذا الموقف؟

يومها، اكتشف أن بعض ما يخسره في أعماله، يكون بسبب التضييق على الآخرين، وإغلاق منافذ الهروب؛ ما يجعل الطرف الآخر أمام خيارين:

*- إما أن يهربَ مِنك* وتَخسر جهده.

*- أو يتخذك عدواً فيكيدُ لك، ويدعو عليك وسيتراجع نشاطه كنوع من الدفاع عن النفس.

وفي كلتا الحالتين تكونُ خاسراً، لذلك فمن المناسبِ أن تختارَ اللحظةَ، لتسمحَ للطرفِ الآخر أن يتراجَع، أن يهربَ بِكرامة، فبعضُ التغافل مفيدٌ جداً.

لعـلنا لا نطلب الكثير؛ إذا رجونا الإداري بالتحلـّي بالقليل من التغـافل الذكي ببعـض المواقف!

كمثل الأب الحصيف؛ الذي يضبط ابنه القاصر يدخـّن؛ ولا يسارع للعـقوبة؛ بل «يطنـّش» ويحاول إعطاء مثل أعلى لولده؛ كي يتخلـّص من تلك العـادة الذميمة؛ بدل أن يعـنـّد ويستمر في غـيــّه! أليس الأب والمدير متشابهين!

يعـد التغافل فناً من فنون الحياة الاجتماعية ومهارة من مهارات الذكاء الاجتماعي، وهو يعني في مفهومه الاجتماعي: التظاهر بعدم الانتباه لزلات الآخرين وهفواتهم، والعفو عن أخطائهم دون إشعارهم بارتكابهم لها، والتجاهل أو التغافل له مظاهر عدة، إما يكون تجاهلاً للشخص المسيء في سلوكه وتصرفاته، وكأنه غير موجود، حتى ينتبه ويعود لرشده وبالتالي يعتذر عما بدر منه، وقد قيل في الحكم: إن القليل من التجاهل يعيد كل شخص إلى حجمه الطبيعي. أو تجاهلاً للأحداث والمواقف المؤلمة، وجعلها وراء ظهورنا بأن نبدأ صفحة جديدة في حياتنا الاجتماعية، بل جعلها منطلقاً وثاباً نحو حياة أجمل وأمل مشرق. أو تجاهلاً للعبارات الخارجة عن قواعد الذوق العام والقيم الأخلاقية.

إليكم موقفاً طريفاً (حول التغـافل الخبيث) وقد حصل فعـلاً منذ سنوات:

عـام 2011 وخلال مؤتمر الدول الثماني الكبار؛ تحدث ساركوزي الرئيس الفرنسي لزميله الأميركي حينذاك أوباما؛ هامساً متذمراً من سلوك نتنياهو واصفا إياه «بالكذاب الأشر»؛ أجابه أوباما «أنا لسوء حظي عـليّ أن أتعـامل معـه يومياً»… لأجل المصادفة لم يلحظ أحد أن الميكروفونات كانت شغـالة؛ وانتشر الحديث بالقاعـة كالنار بالهشيم؛ وتناقل الصحفيون النبأ؛ فضيحة بجلاجل؛ ولكن.. نتنياهو «أذن من طين وأخرى من عـجين»؛ واستمرت الأمور كأنّ شيئاً لم يكن!

قال المدير لرؤساء الأقسام في اجتماع بشركتـه «أفضِّل موافقة المجادل عـلى أن أخوض معـه في جدل خاسر»؛ انبرى أحدهم قائلاً: «ولكن هذا غـلط»؛ أجابه المدير بهدوء – مع ابتسامة- «معـك حق»..!

في الختام عـلى المسؤول أن يوازن: هل يرغـب بربح مجادلة سفسطائية – لا تقدّم ولا تؤخـّر- في موقف ما؛ أم يكسب موظفاً وفياً للشركة؟!

إنه من المناسبِ أن تختارَ اللحظةَ، لتسمحَ للطرفِ الآخر أن يتراجَع، أن يهربَ بِكرامة، فبعضُ التغافل مفيدٌ جداً!

لن تكون منتصراً فعلياً لو كشفتَ المرء أمامكَ وأمام نفسه حد التعرية، حيث لن يجد بداً من المواجهة أو الهروب!

ليس الغبي بسيد في قومه….. لكن سيد قومه المتغابي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن