المبالغة حصان الكذَّاب، وأخطر الأكاذيب تلك التي تسير على ساقين».
تحضرني هذه المنمنمة التي نشرتها قبل نحو ربع قرن في كتابي: «عبثاً تؤجل قلبك» كلما طلع عليَّ عبر الصحف أو التلفزيون أو وسائل التواصل الاجتماعي أحد أولئك المحللين السياسيين، الذين لا يحرّمون شيئاً، حتى تجارة الأوهام! يعمل هؤلاء باتجاهين رئيسيين: الأول باتجاه الواقعية، لكي يبرر انبطاحه أمام (جبروت) الكيان السرطان والتنظير لاستمراريته، والثاني باتجاه المغالاة في التفاؤل، كما لو أنه قد حسم لتوِّه المعركة بشكل نهائي مع العدو، لذا تراه يبشر الناس بأن كل شيء انتهى وأنه لم يبق للمناضلين ما يمكن أن يناضلوا من أجله!
لا شك بأن معركة «طوفان الأقصى» قد افتتحت مرحلة جديدة من مراحل النضال من أجل فلسطين فقد تمكن أبناء القضية وأنصارها من استخدام مختلف أشكال صحافة المواطن ومواقع التواصل الاجتماعي، ونجحوا في كسر هيمنة السردية الصهيونية التي فرضتها وسائل الإعلام التقليدية المملوكة من الصهاينة وأنصارهم وخدمهم. كما نجحوا إلى حد بعيد في نشر السردية الفلسطينية من خلال نشر بطولات المقاومين وآلام المدنيين وخاصة الأطفال والشيوخ والنساء.
وقد تجلى هذا التغيير واضحاً من خلال التظاهرات التي عمت العالم. كما بدأ التغيير يفرض نفسه على الهيئات والمنظمات التي كانت تناصر العدو بحجة الحياد. فحتى غوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة الذي اقتصرَ دورُ سلفهِ على التعبير عن (القلق)، خرج هذا عن المألوف وأدان «الانتهاكات الواضحة للقانون الدولي الإنساني في غزة»، ما جعل مندوب الكيان يطالب بإقالته من منصبه. كما أصدرت منظمة العفو الدولية (أمنستي) تقريراً هاجمت فيه سياسة الكيان السرطان ضد الشعب الفلسطيني ووصفته بأنه «نظام فصل عنصري»!
حتى داخل الكيان السرطان هناك من يريدون أن يجمعوا بين مجد المعارضة ومزايا الموالاة، مثل الصحفي والكاتب غيديون ليفي، الذي قال مؤخراً في لقاء تلفزيوني: إن «ما يسمى ـالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني هو في حقيقة الأمر عبارة عن احتلال إسرائيلي وحشي، لا أقل ولا أكثر.
ولم يفت ليفي أن يقول بشيء من الفخر: «أنا (إسرائيلي)، لقد ولدت في (إسرائيل). لكن لا صراع بين إسرائيل والفلسطينيين»، ثم تساءل: «هل كان هناك صراع فرنسي-جزائري؟ كان هناك احتلال فرنسي وحشي للجزائر، وقد وصل إلى نهايته. ولا صراع إسرائيلي-فلسطيني، بل هناك احتلال (إسرائيلي) وحشي يجب أن ينتهي بطريقة أو أخرى».
لا شك بأن هذا الكلام جريء ومهم، غير أني لا أعول عليه ولا على كل الأصوات (اليهودية) التي تعيش على أرض فلسطين. فلو كان هؤلاء صادقين في ما يقولونه، لفعلوا مثل المحامية فيليسيا لانغر التي ظلت سنوات طويلة تدافع عن رجال المقاومة الفلسطينية أمام محاكم (إسرائيل)، ثم اكتشفت التناقض بين وجودها في الكيان وعملها ضده، فقررت المغادرة قائلة: «قررت أنه لا يمكن لي أن أكون ورقة التين لهذا النظام بعد الآن. أريد أن تكون مغادرتي نوعاً من التظاهر والتعبير عن اليأس والاشمئزاز من هذا النظام.. لأننا لسوء الحظ لا نستطيع الحصول على العدالة للفلسطينيين».
نعم ما حققه المقاومون بالبندقية والقلم والكاميرا بعد «طوفان الأقصى» شيء كبير، لكن القول: إن (المعركة انتهت وغزة انتصرت) فيه ما فيه! فالمعركة مستمرة ويمكن القول إن معركة استقلال فلسطين هي أمام بداية جديدة.