مات هنري كيسنجر قبل أيام وهو في سن مئة عام كاملة، ومنذ الإعلان عن موته كثفت وسائل الإعلام الأميركية بشكل خاص والأوروبية بشكل عام، برامج وتقارير كثيرة تعرب فيها عن الإعجاب والتقدير لكل ما فعله على الساحة الأميركية والدولية لمصلحة الولايات المتحدة والغرب كله، ويدل سجل التاريخ الشخصي لكيسنجر على قيامه بمهام كثيرة كمواطن أميركي شاب من أصل ألماني ويحمل الثقافتين الألمانية والأميركية، وراكم خبرة في العمل التجسسي على ألمانيا كجندي أميركي برتبة رقيب في المخابرات العسكرية بين عامي 1944-1945 ثم استمراره بالعمل الاستخباراتي في داخل ألمانيا بعد انتهاء الحرب وعودته إلى الولايات المتحدة والدراسة في جامعاتها إلى أن أصبح عام 1955 مستشاراً في إدارة تنسيق العمليات في مجلس الأمن القومي الأميركي، ومنذ عام 1955 شارك في كل حروب الولايات المتحدة وسياساتها الإمبريالية في العالم كمستشار للأمن القومي ثم كوزير للخارجية بل بصفته أهم مهندس للسياسة الأميركية الخارجية حتى لحظة موته في 30-11-2023.
عندما يستعرض الواحد منا سجل الولايات المتحدة في شن الحروب وإثارة النزاعات بين الدول منذ عام 1955، ستطالعه دوماً صورة كيسنجر وكتبه ومقالاته ومقترحاته، حتى حرب الولايات المتحدة على روسيا من أوكرانيا وتحشيد حلف الأطلسي ودول أوروبا على موسكو، وهو أول سياسي أميركي لم يتوقف عن العمل السياسي الخارجي والمشاركة باقتراحاته في كل حرب ونشاط سياسي دولي أميركي، ولذلك كان مدير الموقع الإلكتروني السياسي «روتس آكشين» الأميركي والمدير التنفيذي لـ«معهد دراسات البحث عن الدقة العامة» ومؤلف عدد من الكتب كان آخرها قد صدر عام 2023 بعنوان: «حين تصبح الحرب غير مرئية: كيف تخفي أميركا الخسائر البشرية الناجمة عن آلتها العسكرية»، نورمان سولومون، نشر مقالاً بمناسبة موت كيسنجر نقله الموقع الإلكتروني الأميركي «أنتي وور» أول من أمس تحت عنوان: «كيف أصبح مجرم الحرب كيسنجر رجلا عظيما عند النخب الإعلامية الغربية»، جاء فيه: إن «مقولة كيسنجر الساخرة بأن السلطة هي المنشط الجنسي المطلق، بدت الآن لوسائل الإعلام الأميركية حقيقة حين وصفته بالرجل العظيم، لأن هذه الوسائل بقيت مغمى عليها أمام أسوأ مجرمي الحرب في التاريخ المعاصر »، ويعدد سولومون المذابح الأميركية التي نفذها كيسنجر ضد كل شعوب ودول جنوب شرق آسيا حين كان مستشارا للرئيس ريتشارد نيكسون، وتناست الصحف الأميركية الكبرى كل هذه المذابح واكتفت بالتذكير بأن كيسنجر قام بدور للانسحاب الأميركي من فيتنام عام 1975 أي بعد هزيمتها، علما أن سولومون يشير في مقاله إلى «حقيقة أن كيسنجر أحد أهم مهندسي السياسة الخارجية في السبعينيات وهو المسؤول عن مقتل 3,8 ملايين من الفيتناميين سواء في الحرب الأميركية مباشرة أم بالجوع والمرض ومنع وصول الدواء لهم»، وهذا الرقم أكده رجال أبحاث من جامعة هارفارد نفسها التي درس وحاضر فيها كيسنجر، فالمؤرخ الصحفي نيك تيرس كشف بأن مليونين من المدنيين الفيتناميين قتلوا في حرب أميركا على فيتنام وخمسة ملايين ونصف المليون أصيبوا بجراح وجرى تهجير 11,7 مليوناً من بيوتهم، وقدر عدد الأيتام بـ1,3 مليون، ومليون أرملة.
هنري كيسنجر هو الذي رتب ودعم في 11 أيلول عام 1973 الانقلاب على رئيس تشيلي المنتخب سالفادور الليندي وتنصيب نظام دكتاتوري لمدة 17 عاما، وهو الذي دبر مؤامرة إخراج مصر من الصراع ضد إسرائيل بوساطة تكثيف نشاطه بعد حرب تشرين عام 1973 لشق الصف بين سورية ومصر اللتين أعدتا هذه الحرب، فاستفرد بأنور السادات وأدخله في نفق اتفاقية كامب ديفيد وأخرج مصر من الصف العربي عام 1977 حين بدأ السادات بزيارة الكنيست الإسرائيلي وشق مصر عن الإجماع العربي بتوقيعه اتفاقية منفردة عام 1979، وهذه المؤامرة التي نجح كيسنجر بتحقيقها ما زلنا ندفع ثمنها منذ قيام إسرائيل باجتياح لبنان عام 1982 واحتلالها بيروت مستغلة خروج مصر من الصراع وتكبيلها بقيود كامب ديفيد، ومثلما انتصرت فيتنام على أميركا كيسنجر، انتصر لبنان المقاومة بدعم من الجيش العربي السوري ومن فصائل المقاومة الفلسطينية وإيران على الاجتياح الإسرائيلي ومخطط كيسنجر، وحرر لبنان من الاحتلال وبقيت المقاومة مستمرة لاستكمال ما منع كيسنجر مصر عن المشاركة فيه حتى هذه اللحظة.
في النهاية لن يكون كيسنجر إلا واحداً من مجرمي الحرب خلال أكثر من نصف حياته.